حين أنهيت تعتعة الأسبوع الماضي قائلا: ليس الغبي بسيد في قومه، لكن سيد قومه المتغابي، سألني البعض ولماذا اللف والدوران وقد اتسعت مساحة القول والنشر إلى هذا الحد؟ تذكرت كيف أنني كررت كثيرا ما استشهد به سيجموند فرويد من مقامات الحريري، في كتابه الرائع "ما فوق مبدأ اللذة"، أخر مرة استشهدت بما اقتطفه فرويد كان مقالا طلبته مني صحيفة الحياة اللندنية، أرسلته في حينه، اعتذروا عن نشره لأسباب لا أعرفها!!
اقتطف فرويد من الحريري ما يلي:
تعـارجت لا رغـبة فـي الــعرج ولكــن لأطــرق بــاب الفـــرج
وألقي بـحبلي علـى غاربـي وأسـلك مسـلك من قد مرج
فإن لامني القوم قلت اعذروا فليس على الأعرج من حرج
التحايل ليس دائما توقيا أو جبنا، كان فرويد يستدرج القارئ العادي، بل والمختص، بكلام بسيط لا يثير فيه دفاعات (ميكانزمات) جاهزة تحول دون أن يتلقى الجديد. كان فرويد يتهم نفسه بالعي وعدم القدرة على توضيح فكرته، ثم يطلب من القارئ أن يتحمله ويصبر عليه، لعل وعسى، ثم يلقى إليه ما تيسر، وهو يأمل فيه أن يعيد النظر. أليست هذه هي وسيلة التعتعة؟
فرويد ليس شيخي جدا، لكنني أحترمه جدا وأختلف معه جدا، فضلت أن أقتدي به ربما يكون ذلك أدعى لتحريك الوعي ونحن ننظر في "الذكاء السياسي" لبعض الساسة وبعض التصرفات وبعض القرارات عندنا، فلجأت إلى حياة استعملتها للتعتعة من قبل: أطرح أسئلة مثيرة للجدل، وأنا أزعم أنني -بقصوري- ليس عندي لها إجابات (شكرا لمقامات الحريري، ثم سيجموند فرويد):
1- أين يقع الكتاب الأخضر للأخ الزعيم القذافي على طيف متدرج الذكاء السياسي؟ ذلك الكتاب الذي به من لمحات الإبداع ما أغرى جارودي بالتصفيق لبعضه، بقدر ما به من سذاجة الفكاهة مما يذكرني ببعكوكة الأربعينيات المصرية؟
2- أين يقع ذكاء المرحوم الحريري الذي أدار بلده بكل نجاح، ووطنية، لكنها كانت- كما استنتجت من بعض الكتاب الألماني عن اغتياله (تأليف: كارل يورجيل كولبل)- إدارة بنفس نمط مقاولاته في السعودية بالذات: بالعمولات والسمسرة وشراء الحكام العرب وغير العرب، بما في ذالك ما كان من إهدائه قصرا للرئيسي السوري قبل الهنا بسنة، ثم ينتهي به الأمر، تلك النهاية المؤلمة، برغم كل وطنيته وكرمه ودهائه؟
3- أين يقع تصرف الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر باتخاذه القرار العظيم بانسحاب الجيش من سيناء 1956، برغم ما حدث بعده، من تفويت سري وإخفاء حقيقة الثمن عنا نحن أصحاب الأرض، مقارنة بقراره بانسحاب الجيش من سيناء سنة 1967، وكأنه لم يميز بين انسحاب وانسحاب متبعا نوعا شرطيا من الذكاء الأدنى، لا يليق بذكائه السياسي الذي حقق الانقلاب، ثم أحاله إلى ثورة اجتماعية، على ما قسم؟!
4- كيف لمع ذكاء المرحوم السادات وهو ينتزع لنا كل سيناء من فم الأسد، وهو لا يتردد في تأجيل موضوع المربع في طابا حتى استرددناه بفضل فقهائنا القانونيين بقيادة المرحوم وحيد رأفت؟ أبلغني أبنائي وزملائي الذين كانوا هناك أثناء مفاوضات كامب ديقيد كيف أن الرأي العام الأمريكي راح يتعجب لدهاء هذا المصري الأسمر، وهو يخدع بيجن ومستشاريه، ويدور حول كارتر ومساعديه (حتى قيل إن نهاية بيجن كانت بسبب بعض ذالك).
هل هذا الداهية الأريب هو نفس الرجل الذي رعب مما تصوره مدا يساريا يهدد كرسيه بسوء تقديره لأحداث 18و 19يناير1977، فراح يستنقذ بسلفي الدين مسيحيين ومسلمين، حتى زرع في السياسة دينا غير الدين الذي أنزله الله، وهو الذي أودى بحياته؟ ثم هل هو نفس الذكي الأريب الذي أصدر أمر اعتقالات سبتمبر1981، حتى تم حادث المنصة بعدها بأسابيع؟
أسف مرة أخرى: انتهت المساحة أيضا قبل أن أكتب عن تقييم ذكاء صحف الحزب الوطني ولجنة السياسات في الدعاية للإخوان وهم يتصورون أنهم يهاجمونهم، أو موقع ذكاء زيارة الابن العزيز جمال لواشنطن في هذا التوقيت بالذات، سرا، فعلانية- اضطرارا على ما يبدو- وقبل أن أعرج إلى ذكاء من قدم أعظم المستشارين:البسطويسي ومكي للمساءلة، بدلا من أن يكفوا على الخبر (ما حدث في الانتخابات) ماجور...الخ.
أما عن موقع رئيسنا الكريم خلال ربع قرن على هذا المتدرج، فهذا أمر يقوم به عني بكل التفاصيل فريق من المتحمسين المغالين على الجانبين حتى وصل تقييم كل منهم إلى أقصاه كل على ناحيته ضد الثاني، مما لا أجد معه جدوى من مزيد، ولو على سبيل التساؤل، خاصة بعد هذا الذي جرى ويجري: الخميس فالخميس 11: 18 مايو الجاري. ربنا يستر!!
اقرأ أيضا:
تعتعة: الحلم والشعر والواقع والسياسة / تعتعة سياسية: حاول ألا تفهم...! / يا هنود العالم الحُمْر، اغضبوا أو انقرضوا..!