كنت في طريقي من المنصورة إلى مدينة نبروه – مسقط رأسي ومحل ذكريات طفولتي - للكشف على السيدة (س أ) في حارة الكنيسة, وكانت تنتابني مشاعر كثيرة, فهذه السيدة تربطني بها علاقة عميقة حيث أعالجها من أمراض الشيخوخة منذ كنت طبيبا مبتدئا وهي – كما تذكر ويذكر أبناؤها وبناتها - لا تستريح إلا إذا كشفت عليها وأعطيتها أي دواء, وعلى الرغم من ضعف بصرها وسمعها إلا أنها كانت تدرك وصولي إلى غرفتها بشكل خاص وتستقبلني استقبالا حميما.
إضافة إلى ذلك فقد مرت سنوات طويلة لم أزر حارة الكنيسة بسبب إقامتي لسنوات طويلة في الخارج, وانتقالي في مصر من مدينة لأخرى بحيث أصبحت زياراتي لبلدتي نادرة, وحين اقتربت من حارة الكنيسة تسارعت ضربات قلبي دون إرادة مني حتى أنني خفت أن يلحظ ذلك الأخ "مينا" مرافقي في الطريق, وربما يرجع السبب في ذلك تأثري الشخصي بموضوع الذكريات وتعلقي بالأماكن بشكل ربما يفوق تعلقي بالأشخاص, وأن طفولتي وجزءًا من صباي قضيتهما في منزل العائلة الواقع بين حي الشيخ عبيد (أقدم أحياء مدينة نبروه) وحارة الكنيسة, وقد شكل حي الشيخ عبيد بمسجده وأهله جزءا هاما جدا من وجداني, وقد كتبت عنه من قبل كثيرا, ويبقى تأثيرا وجدانيا هاما في نفسي مصدره حارة الكنيسة وأهلها, والتي هي موضوع حديثي اليوم.
أعتذر عن هذه الاستطرادات غير المنظمة وأرجو أن يسامحني القارئ فيما يتلوها من استطرادات وعدم تنظيم وليكن المبرر لذلك أننا نتناول مشاعر وذكريات وهي بطبيعتها غير مرتبة أو منظمة. ولقد سبقني شريط الذكريات قبل وصولي إلى الحارة فحضرتني أوقات سعيدة كنا نلعب فيها الكرة في هذا المكان وتذكرت كيف كانت الكرة سقط منا في حديقة الكنيسة ذات السور المنخفض فنقفز من فوق السور لالتقاطها ونسرع في ذلك حتى لا يرانا "المعلم" , وهذا هو اسمه الذي كان معروفا به لدى الناس, وأظن أن اسمه الحقيقي إبراهيم, وكان موكلا بدق أجراس الكنيسة أيام الآحاد والأعياد, وعلى الرغم من كونه كفيفا إلا أنه كان قادرا على السير في شوارع بلدتنا كلها دون مساعدة, كان فقط يعتمد على عصا في يده اليمنى يحركها فيستشعر بها الطريق, وكنا أحيانا نداعبه (أو نشاغبه) ثم نجري من أمامه قبل أن تطولنا عصاه, وكثيرا ما يرن في أذني أصوات من الماضي منها صوت الأذان من مئذنة جامع الشيخ عبيد بصوت الشيخ "عبد اللطيف" وصوت أجراس الكنيسة يدقها "المعلم".
وجرى أمامي الشريط فتذكرت جيراننا المحيطين بنا من الإخوة الأقباط (أو النصارى كما كنا ندعوهم في ذلك الوقت), وأحتفظ في ذاكرتي ببيت عم "وهبة" وكان صاحب "وابور الطحين" في المدينة وكان صديقا حميما لوالدي رحمة الله عليه, وأذكر حين كنا في سفر (وكثيرا ما سافرت معه ومع أبي) اشتد البرد فخلع "كلبوشا" كان يغطي رأسه ورقبته ويظهر وجهه فقط وألبسني إياه فشعرت وقتها بدفء وسعادة لم أشعر بهما من قبل وظل هو يرتعش من البرد, واحتفظت بهذا الكلبوش لسنوات طويلة بعد ذلك.
كنت في مراحل طفولتي المبكرة لا أعرف الفرق بين بيتنا وبيت عم "وهبة" لذلك كنت أقضي معظم وقتي هناك حيث كان هو وزوجته يغمراني بحنان لا أنساه ما حييت، وحين وصلنا إلى مدخل حارة الكنيسة استيقظت من ذكرياتي ورحت أتأمل المكان فلاحظت اختفاء بعض البيوت وظهور بيوت جديدة مكانها, وفوجئت بالكنيسة قد تغيرت حيث ارتفعت جدرانها وأغلقت نوافذها العالية الضيقة بالحديد وأصبحت مثل الحصن, ولست أذكر إن كانت حديقتها قد ألغيت أو رفعت أسوارها لدرجة يصعب معها رؤيتها.
وصدمني أكثر وجود الجنود يقفون أمام مدخلها خلف ساتر (رغم أن هذا المنظر مألوف في المدن الأخرى إلا أنني لم أتخيل وجوده في بلدتي التي لم تعرف أي حادث طائفي في تاريخها), وشعرت بتغيير هائل في المكان وفي داخلي عكر على ذكرياتي الحلوة التي كنت أعيشها منذ لحظات, وتذكرت الصورة القديمة للكنيسة والتي كانت تسمح لنا بالدخول إلى حديقتها وإلى ساحتها دون مشاكل تذكر, وكنا قد اقتربنا من منزل مريضتي العزيزة السيدة (س. ا) فخرجت من عالم الذكريات وانشغلت بمريضتي وأبنائها وبناتها حيث تعودت أن يستقبلوني بترحاب شديد فهم يعلمون حبي وانتمائي للمكان وقاطنيه ومالي من ذكريات فيه أستمتع بالحديث عنها كلما جاءت الفرصة.
وفي طريق عودتي إلى مدينة المنصورة (حيث سكني وعيادتي) استيقظت الذكريات بداخلي مرة أخرى خاصة حين ظهر أبي – رحمة الله عليه – في الصورة حيث كان يصحبني في كل مجالسه وسفرياته, وكان له أصدقاء كثر من النصارى, لذلك كان من المألوف لدي لسنوات طويلة حضور مناسبات الأفراح والعزاء في الكنائس في بلدتنا وفي البلدان المجاورة لنا لدرجة أن مشهد الكنائس من الداخل ورائحة البخور والصور المنقوشة على الجدران تشكل جزءا هاما من مساحة ذاكرتي.
وأذكر أنه في يوم من الأيام كان يقام قداس في الكنيسة وكنت أحضره مع والدي وإذا بي أبتعد عنه بعض الشيء حيث كنت أريد أن أقترب من القسيس (الذي يردد التراتيل بصوت رخيم يخرج من الأنف أكثر مما يخرج من الفم) كنوع من حب الاستطلاع ومحاولتي لمعرفة ما كان يردده بسرعة ولا أستطيع فهمه أو متابعته, وهنا شعر والدي بالقلق عليّ (حيث أنني ولده الأثير لديه) فراح ينادى اسمي "محمد"..."محمد".... لعلني أسمعه, وهنا نظر إليه أحد أصدقائه النصارى وقال له مداعبا:"يعني لازم تقول الاسم ده ساعة القدّاس علشان تبوظه" فانفجر المحيطين به في الضحك وهم يحاولون إخفاء ذلك مراعاة لخصوصية المكان.
وكثيرا ما سمعت أبى وأصدقاءه النصارى يتبارون في سرد الطرائف والنكات التي كان يطلقها الناس في ذلك الوقت على المشايخ والقساوسة, وأذكر من هذه النكات أن مجموعة من الصعايدة ذهبوا للعمل في ترميم أحد الكنائس, وكعادتهم أثناء العمل راحوا يرددون:"هيلا هيلا.. صلي ع النبي... هيلا هيلا... صلي ع النبي"فجاءهم القسيس في أدب وقال لهم:"ياجماعة بلاش تقولوا كده ما تنسوش إن انتم في كنيسة", فاستجابوا لرغبته بعض الوقت ولكنهم لم يستطيعوا العمل دون هذا الغناء, فقام أحدهم بكتابة:"صلي ع النبي" على جدار الكنيسة, وراحوا يرددون:"هيلا هيلا... بص ع الحيطه".
ومنها أيضا أن قسيسا كان يقود سيارته قبل الفجر بساعة فتعطلت سيارته وتصادف أن حدث ذلك أمام بيت شيخ مسلم, فطلب منه القسيس أن يساعده في دفع السيارة لكي تتحرك, وبدأ الشيخ في دفع سيارة القسيس وهو يقول: "يا ماري جرجس مدد", فاستغرب القسيس من ذلك واستفسر من الشيخ, فقال له الشيخ مندهشا: "أمال عايزني اصحي لك السيد البدوي في الساعة دي؟". ولم تكن الجلسات تخلو من مداعبات كل طرف للآخر وكان الجميع يضحكون وأكواب الشاي تدور بينهم وحين يأتي موعد الطعام نأكل جميعا في البيت أو المكان الذي وجدنا فيه.
وفي أحد الأيام ذهبنا لحضور فرح ابن الخواجة جرجس في أحد البلدان المجاورة, وكان من عادتهم تقديم الطعام للمدعوين في وقت العصر, ولكنهم عرفوا في ذلك اليوم أن هناك عدد من المسلمين الحاضرين صائمين (ربما كان ذلك يوم عاشوراء حسب ما أتذكر) فقرروا تأجيل تقديم الطعام لكل المدعوين إلى وقت أذان المغرب, وكان هذا السلوك يتكرر منهم دائما في رمضان فلم أر أحد منهم يتناول الطعام جهارا في شهر رمضان, بل كنت أسمع أن كثيرا منهم يأكلون في نفس المواعيد التي يأكل فيها جيرانهم المسلمون, ويضبطون مواعيد نومهم وسهرهم في رمضان على نفس مواعيد المسلمين, ولي منهم أصدقاء كانوا يشعرون بالجو الرمضاني ويشاركون فيه ويستمتعون به.
ومن الطرائف أننا كنا في رمضان نذهب إلى ساحة مسجد الشيخ عبيد لنستمع إلى الأذان, وما أن يؤذن الشيخ عبد اللطيف حتى تسابق سيقاننا الريح عودة إلى بيوتنا وكان ثلث الذين يجرون بيننا من النصارى, وكنا نردد ونحن نجري:"المغرب ادن.. يا صايم افطر", وكنت أصل إلى بيتنا قبل جورجي وجرجس في حين يكملان هما طريقهما إلى بيتهما وهما يرددان في حماس:"المغرب ادن.. يا صايم افطر".
ويتبع >>>>>>>: ذكرياتي في حارة الكنيسة (2)
اقرأ أيضا:
ذكرياتي في حارة الكنيسة (2)/ قراءة في أحداث كنيسة الإسكندرية