قالت مشفقة ومعاتبة: لا تطيق أغلبية الناس ما تبوح به، وتكشفه عن نفسك والعالم!!
خاطبهم على قدر عقولهم!! سألتها، وقد قرأت هي كل ما أكتبه تقريبا، قلت: يا سيدتي لا يهمني كثيرا رضا الناس أو سخطهم، أو هكذا أظن أنه لا يهمني، السؤال الأهم عندي هو: هل في كتابتي تلك ما يفيد أو ينفع؟! قالت: أشهد أن فيه الكثير مما أعتقد نفعه.
تمتمت: الحمد لله، وعزمت مجددا على تحري ما يفيد غير عابئ بمن لا يفهم الفارق بين المجاز والتقرير، ومن لا يكلف نفسه عناء قراءة السطور بدقة، وبالتالي ما بين السطور!!
تركت الكتابة الفارغة المسطحة الكاذبة تجملا أو نصحا أو تبشيرا بعالم زجاجي بلاستيكي، تركتها لغيري، وبحثت وأبحث عن لحظة صدق، عن دفقة وعي وحياة في أوطان تنتحر!!
شغلتني مصارع من أحب عن التواصل مع من أرغب، في دفعة رحلت مع ملك الموت ذهب الصديق صاحب نفس الاسم، وكثيرا ما كان التشابه في الأسماء بيننا مما يوقعنا في التباسات، وأحيانا مقالب، حتى غافلني ورحل، تاركا لي الاسم والحزن على فقده.
تذكرت رحلتنا الأسيوية الطويلة حيث رأيته وتزاملنا في غرفة واحدة، وسرنا في شوارع الصين، وهونج كونج، وبانكوك، أكلنا في صحن واحد، وجرت بيننا مناقشات لا أول لها ولا آخر. أسمع الآن كاظم الساهر من إذاعة الشرق الأوسط يغني من التراث العراقي باللهجة الدارجة هناك، وأنا أحب العراق وأهله، وفي قلبي وجع على دمائه التي تسيل!!
قابلت منذ أيام الصديق العزيز مثنى "الكردي"، سألته من يحمل السلاح، ويلعب بالموت في العراق، قال أجهزة المخابرات العالمية، وأباطرة الصراعات الطائفية، وإيران، والأمريكان طبعا، والقليل من المقاومة الوطنية!! أتذكر "أحمد عبد الله" الراحل، وتمر بخاطري "استعجلت الرحيل" كما سمعتها من "كاظم" منذ سنوات طويلة.
في نفس الأسبوع رحل الأب "متى المسكين" وريث المسيحية المصرية في اتجاهها السلمي المتصوف، هذا الاتجاه الذي يكاد يندثر في لعبة الكنيسة والسياسة التي حولت أقباط مصر إلى حزب طائفي يرأسه البابا!!، والأب "متى" كان يختلف مع هذا كله، وله في هذا أحاديث ومقالات تأخذ اتجاها مدهشا يستحق التأمل.
كنت قد اقترحت على الصديق إبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة الدستور الأسبوعية القاهرية أن نلتقي أنا وهو بالأب "متى المسكين" عقب أحداث كنيسة الإسكندرية حين قتل أحد الفصاميين مسيحيا خارجا من الصلاة، وجرح آخرين!!
لم يرد إبراهيم على رسالة المحمول التي اقترحت فيها زيارة وحوارا مع "المسكين" الذي رحل، لكن كلماته باقية لمن يقرأ ويهتم، تناولت كتاب الأستاذ "جمال البنا" الجديد: إخواني الأقباط لأجده قد أفرد بابا كاملا للأب "متى" واتجاهه في التفكير والموقف، لكن من يقرأ في أوطاننا؟! التي إن لم تتعارك بالسلاح، تنتحر بالجهل، وقلة المعرفة.
"أحمد" آخر رحل بنفس الدفعة، هو "أحمد نبيل الهلالي" ابن الباشا الذي ترك القصر لينحاز إلى الناس ويدافع عن الفقراء والمعتقلين، ويدخل معهم السجن، ويتطوع في كل قضية حق متقدما الصفوف بغض النظر عمن وراء القضبان، واحد من الأوفياء القلائل لليسار الحقيقي الذي يبدو ماضيه مجهولا لأغلبية المصريين، ويبدو حاضره ومستقبله غامضا وسط تقلبات العصر وتحدياته.
رحل الهلالي قبل أن يرى أوراق سجلات معركة استقلال القضاء، وهي تكاد تنطوي على تسوية هزيلة بقانون منح يحمل بعض التغييرات الشكلية يهلل لها "كذابو الزفة" وحملة المباخر والطبول، بدلا من قانون يحقق استقلال حقيقي لقضاء نزيه، وأقرأ كلاما يرفع ضغط الدم، ويصيب بالغثيان، ويضيق صدري، وأقلق على مستقبل وطني الذي أراه ينتحر كما طلاب الثانوية العامة الذين يعيشون هول الامتحانات يوما بيوم، وحاول بعضهم الانتحار فعلا عقب امتحانات كانت صعبة عليهم في معضلة سنوية، وعناوين الصحف تنقل هذا كل يوم.
ماذا أكتب ولمن؟! سؤالي المتكرر المعتاد المؤرق!! أكتب إلى الهاربين من هذا كله إلى المخدرات بالأغاني التافهة التي تبني عوالم زجاجية أخرى؟! أم على أولئك الهاربين من الانتحار إلى تسكين بأشكال دينية، أو ثورية متمردة مفتعلة، أم أكتب لنفسي والتاريخ أم لقارئ مجهول؟!
واقرأ أيضا:
على باب الله: معركة الخيال/ على باب الله: المرايا الكاذبة