أراقب الشباب من حولي وأنا أحاول أن أتعلم وأتأمل لأفهم، وأقارن أحيانا بينهم وبيني حين كنت في مثل أعمارهم. في الجامعة مطلع الثمانينات كان النشاط السياسي على أشده، وكانت صحف الأحزاب الرئيسية تصدر على مدار الأسبوع، وأحيانا تنفذ لأنها تثير قضايا ونقاشات تهم الناس، وكانت الاتجاهات الدينية تنشط أيضا بطريقتها، وكنا نحن الطلاب نتابع هذا وذاك، واختار بعضنا أن يصبح مهتما بالشئون العامة للناس والمجتمع، واختار آخرون أن يبقوا على هامشها مهتمين بشئونهم الخاصة.
وكانت المدارس والجامعات مثل خلايا النحل، وكل صاحب موهبة أو هواية يحاول أن يفعل شيئا، هنا فريق المسرح يتدرب على مسرحية يشارك بها في مهرجان الجامعات، وهناك جماعة الجوالة/ الكشافة تضع خطتها السنوية للمعسكرات والرحلات، والأسر الجامعية تتنافس في تقديم الخدمات والامتيازات، ووسط هذا كله كانت العلاقات العاطفية تنشأ على استحياء، وتحاول أن تصمد في مواجهة الظروف غير الملائمة لاستمرارها، وأعني الظروف الاقتصادية والحياتية عامة.
وكانت خطة كل شاب منا جاهزة في رأسه، فهو سيتخرج ثم يقضي فترة التجنيد ثم يبحث عن فرصة عمل خارج مصر، غالبا في الخليج، وفي خلال سنوات سيعود قادرا على أن يفتح بيت ويتزوج، وهكذا. هذه باختصار كانت تفاصيل المشهد وقتها، فهمنا معنى التنوع والتعددية من خلال الممارسة العملية: كنا نسمع للعشرات من المطربين والمطربات، وكانت أمامنا الاتجاهات السياسية والدينية، وفرصة لا بأس بها للنشاط العام لمن أراد، والفرصة للعلاقات الخاصة لمن يحاول، وكانت صورة المستقبل تبدو معقولة، والخطة بالتالي محددة لمن يريد السفر أو حتى البقاء.
واليوم.. لا أزعم أنني قادر على الإلمام بتفاصيل الصورة الحالية، ولكنني أستطيع أن أقول بحسم أنها مختلفة تماما، أو بعض الشيء على الأقل. ما الجديد؟!!
أشياء كثيرة تعالوا نفكر لنعددها:
• ثورة الاتصالات الرهيبة التي قلبت حياة الناس رأسا على عقب، فكل يوم يشهد انطلاق قناة فضائية أو موقع إليكتروني أو صحيفة أو مجلة أو طرازا جديدا من المحمول.
• التغيير الهائل في الظروف الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة السياسية والعسكرية، ومحاولات التصدي لهذه الهيمنة على مستوى الشعوب والأفراد، وما ينتج عن هذه المواجهات من عنف نراه حولنا.
• زيادة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي النفسية بشكل كبير، وانعكاسات هذا على أمزجة الناس وأوضاع حياتهم اليومية، ونشاطهم العام لمن يريد.
• التخبط في المفاهيم والأشكال والأفكار بسبب كثرة المصادر والمعلومات المتاحة حول الأديان والعلوم وطرق الحياة والعيش، والاختلافات في تفسير معنى الحرية مثلا، أو النجاح أو التقدم والنهضة، أو حتى السعادة، مع استمرار جمود الواقع الذي نعيشه إلى حد كبير.
• انفجار التوقعات والتطلعات حول معاني "الحياة الطيبة"، وما أصبح يرتبط بهذا من استهلاك المنتجات المادية، والأشياء من أجهزة وملبوسات وتفاصيل المجاملات والمناسبات مع تآكل وانقطاع الروابط الإنسانية والاجتماعية تدريجيا.
• حالة عدم الاستقرار العام السائدة في العالم كله، وتشمل كل فرد حتى في وظيفته وسكنه وعلاقاته، وآثار هذه الحالة على النفوس والعلاقات.
دماغك
كنت أستعد لمغادرة قاعة النهر، في ساقية الصاوي عندما بدأت الفرقة النوبية على خشبة المسرح أغنية جديدة جعلتني أبقى لأسمعها، وكانت الأغنية بعنوان "دماغك".
"ودماغك" كلمة شائعة جدا منذ سنوات، وتعبير "الدماغ" نستخدمه بمعاني مختلفة، وأنا هنا أسأل عن دماغي ودماغك وسط كل هذه المتغيرات والحكايات. في تعقيب على إحدى إجاباتي على مشكلة وصلتنا على موقع مجانين قال الأخ المشارك، وهو على أعتابي الأربعين من عمره، أن منح بنات اليوم في قلوبه، ومنح الشبان في أعضاءهم التناسلية، وبالتالي لا أحد يفكر تقريبا، ولكن يندفع الجميع وراء الرغبات الجامحة ـ وبقليل من الوعي أو بعدم وعي على الإطلاق، وأنا أتأمل: من أين يأتي الوعي؟! وكيف تتكون الدماغ؟!
أي تعليم هذا الذي نتعلمه؟! هل هو حقا المدخل لمعرفة معقولة عن العالم والحياة من خلال تخصص ما؟! هل هذه المعلومات التي في الكتب المدرسية أو الجامعية هي الأحدث والأنسب والأهم للطالب أو الطالبة؟!!
ما هو الإعلام السائد؟! ماذا يقدم للناس؟! وبماذا يشغلهم؟! وكيف يتحدث إليهم؟!
ما هي الأغاني التي نسمعها؟! ما هي موضوعاتها؟! وكلماتها القليلة المتعثرة؟! وألحانها السريعة أو المتداخلة!!
ما هي الكتب التي نقرأها؟! وهل هذه سينما أصلا؟!
ما هي الحوارات الدائرة حاليا؟! من منا أصلا يتحاور مع غيره بجد؟!
أليست هذه هي طرق وأدوات صناعة "الدماغ" ؟!
وإذا كنا حقا نعيش بلا أدمغة، أو بأدمغة مضطربة منهكة ومشوشة، فما هي نتائج هذا؟
باختصار: مشكلات كثيرة يمكن أن يتوقعها كل منا لغياب الدماغ أو نومها أو لخبطتها. عندما تكون الدماغ في خطر أو تغيب عمدا أو سهوا فإننا نعيش بدون تفكير ولا وعي، وحين ينعدم التفكير أو الوعي يمكن أن يحدث أي شيء، ولعل هذا بعض التفسير للفوضى التي نعيشها.
تخيلوا شابا يعيش بلا تفكير: يختار بلا تفكير، وبلا تفكير يصادق أو يعادي، يقرر أن يعيش أو حتى يموت دون تفكير سليم يسبق اتخاذ هذه القرارات المصيرية. تصوروا فتاة تندفع وراء عواطفها مخدرة بكلمات الأغاني ومشاهد الحب في الأفلام والفيديو كليب!!
تصوروا أجيالا بالآلاف تقرر هكذا "خبط لزق" كما نقول أن يهاجروا لأن الحياة في بلادهم لا تطاق، وفي نفس الوقت يظنون أن "هناك"، أي هناك، هو جنة الله في أرضه!!
أو آخرون بالمقابل، وبلا تفكير أيضا يعتقدون أننا أحسن من غيرنا أو أن تغيير الأخطاء في حياتنا لا لا يحتاج سوى لبعض الجهد والوقت البسيط؟!!
هذا التبسيط والتسطيح والاستسهال، وهي معالم واضحة لثقافتنا اليوم، هي نتائج طبيعية لغياب الدماغ.
اقرأ أيضا:
على باب الله: المرايا الكاذبة/ على باب الله: محتاج طبيب نفساني؟!