كنت قد تعودت أن أقول لطلبتي في سكشن تدريس أخصصه للحديث عن ماهية وتاريخ الطب النفسي أنه كتخصص كان موزعا بين الكهنة والفلاسفة وأطباء البدن وأمثالهم حتى بدأ علم النفس الغربي الحديث منذ ما يربو على قرنين.
بعد فترة اكتشفت أنني أنقل لهم معرفة ناقصة لأن تطبيب النفس كان مجالا متخصصا سواء في الحضارة الفرعونية أو خلال فترة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وربما نكتشف أو نجد الشيء نفسه لو تابعنا تاريخ حضارة مثل الصينية مثلا.
الوصمة
ولكننا مع استيراد المعرفة الناقصة التي تؤرخ لبداية الطب النفسي بهذا الذي بدأ وتطور وانتعش في الغرب الأوربي، يبدو أننا استوردنا أيضا الوصمة الاجتماعية التي التصقت بالمريض النفسي هناك، وما زالت رغم محاولات مستميتة للتخلص منها ساهمت في جزء منها منظمة الصحة العالمية بحملة واسعة وعالمية لإزالة هذه الوصمة عن الملايين المصابين بهذا المرض النفسي أو ذاك.
تاريخيا كانت مواقف حضارات وثقافات أخرى عن المرض النفسي، وحتى الجنون نفسه، وذهاب العقل، يعتل مثل أي جهاز عضوي آخر، هذه الفكرة كانت مقبولة بل شبه بديهية، ولكننا استوردنا الوصمة مع المعرفة الناقصة سواءً بسواء كما يوضح أخي الدكتور وائل في مقال وصمة المرض النفسي: ليست من عندنا!.
فصول جديدة
مع انتشار وسائل الإعلام وبخاصة الفضائيات والإنترنت وتقارب واختلاط الثقافات أكثر وأكثر بدأنا ننتقل من مرحلة الوصمة إلى مرحلة جديدة، يمكن تسميتها مرحلة "الموضة" بحيث أصبح التردد على الطبي المتخصص في الطب النفسي أمرا مقبولا بل ومتداولا ومجندا في الطبقات الاجتماعية الأكثر ثراءً، وعند الطبقات الأقل تكفلت زيادة الضغوط المعيشية بدفع الناس إلى مراجعة العيادات النفسية للعلاج من التوتر والاكتئاب، والسؤال عن المشكلات الأسرية وغيرها مما يدخل في التخصص بل وأحيانا مما لا يدخل فيه، وأصبح الطبيب النفساني، وكأنه قادر على حل كل مشكلة!!
نعم ولا
ما هي طبيعة المعرفة التي يتم نقلها لأي طبيب نفساني تقابله وما هي برامج التدريب التي تلقاها؟! وما هي بالتالي حدود دوره وقدراته؟!!
في جامعاتنا يتم التركيز على تخصص الطبي النفسي بدءا من الدراسات العليا، فخلال الدراسة في كلية الطب لا يحصل الطالب على نفس القدر من المعرفة التي يتلقاها فيما يخص أمراض النساء والتوليد أو حتى أمراض العيون أو الأنف والأذن، ما يعرفه عن الطب النفسي أثناء الكلية مجرد معلومات قليلة، والدرجات الموجودة لهذه المادة قليلة أيضا!!!
في الدراسات العليا/ماجستير يدرس الطبيب الراغب بهذا التخصص مزيجا عن علوم الأعصاب بتشريحها خاصة فيما يختص بالمخ والحبل الشوكي أي ما يسمى بالجهاز العصبي المركزي، وكذلك علوم وظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية والدوائية المتعلقة بالجهاز العصبي، ثم تقسيم وتفاصيل الأمراض النفسية بحسب المراجع الغربية التي صارت عالمية في غياب مراجع من خلفيات أخرى على نفس المستوى من الجودة والإتقان.
وفي الدكتوراه يتعمق الطبيب أكثر في دراسة الأمراض النفسية وعلاجاتها وبناءا عليه لا يحصل الطبيب النفسي ضمن تكوينه –سالف الذكر– على مهارات التخصص بالتحليل النفسي المرتبط في أذهاننا بالشيزلونج، كما لا يحصل غالبا على تكوين خاص بأنواع العلاجات الأخرى -غير الدوائية- من علاج اسري أو علاج معرفي سلوكي أو غير ذلك، اللهم إلا أبواب نظرية يحفظها ويمتحن فيها، ويبقى أن من يريد أن يستخدم هذه الطرق فعليه أن يبحث عن جهة تقوم بتدريسها، والتدريب عليها.
وبالتالي فغن الطبيب النفساني الذي تذهب إليه سيكون مستعدا وراغبا في أن يصف لك دواء للأعراض التي تشكو منها، وقد يستطيع أن يفيدك في مشكلة عاطفية أو اجتماعية أو جنسية بطرق أخرى غير الأدوية بمقدار خبراته السابقة أو حصوله على تكوين خاص في دوائر التشخيص والعلاج كما شرحت لك توا.
متى نزوره؟!
تتنوع الأمراض النفسية فمنها ما يتعلق باضطراب النوم زيادة أو نقصا، ومنها ما يتعلق باضطراب المزاج حزنا أو هوسا، ومنها ما يرتبط بأوجاع جسمانية دون أسباب عضوية، ومنها ما يظهر في صورة خيالات أو هلاوس أو أفكار تسلطية أو ضلالات لا أساس لها في الواقع، وهذه الأعراض تحصل للمؤمن الملتزم كما تحصل لكل أنماط البشر، ورغم أن أصحاب النفوس المطمئنة بالإيمان، أو أصحاب نمط الحياة الهادئ الخالي نسبيا من الضغوط يكونون أبعد عن الإصابة باضطرابات القلق والتوتر، وكذلك الاكتئاب، إلا أن الأمراض النفسية يمكن ان تصيب الجميع مثلها في ذلك مثل الأمراض العضوية، وإذا شعرت بأعراض من هذه فإنك تحتاج إلى مراجعة طبيب نفساني.
وإذا واجهتك مشكلة عاطفية أو أسرية أو جنسية أو دراسية ولم تستطع حلها، أو لم تجد من تصارحه بها لتستشيره يمكنك أن تلجأ إلى الطبيب النفسي الذي سيمكنه –على الأقل– توجيهك لغيره من المتخصصين في العلاجات التي تناسب ما تشكو منه...... ومساء الفل.
اقرأ أيضا:
على باب الله: دماغك فين؟!!/ على باب الله: الأرض البور