كنت أتأهب للانصراف من الجامعة حين دخل إلى الغرفة أحد الأساتذة، وأنا أتعلم من أساتذتي كثيرا: خبرتهم في الحياة، ورؤيتهم للأشياء، وأحرص على أن أستمع جيدا لكل كلمة تصدر عن هذا أو ذاك. أخطر النقاشات هو ما يتناول أمور الحياة بشكل عام، وهو موضوع مطروح من آن إلى آخر في الحوارات.
قلت له: ها هو أمر قانون القضاء قد آل إلى ما توقعت حضرتك سابقا!! تمت تسوية الأمر. وكأن شيئا لم يكن!!
ودخلنا في تفاصيل أكدت في ضميري ما أعتقده من أن الزراعة تفشل وستفشل طالما كانت الأرض أو التربة غير صالحة أو مستعدة لها.
هناك بضعة أفراد في كل هيئة ومصلحة لهم مكانتهم، ولديهم أمانة وإخلاص وتجرد حقيقي، ولكن المنظومات والأنظمة، وعموم الأراضي، والقطع التي تشكل خارطة الوطن قد جرى إفسادها تدريجيا، وبشكل منهجي ومنظم، حتى تتساوى الرؤوس.. في الفساد!!
عمليات تخريب وتجريف، وتبوير وتخويف، وتشويه وتعويق- طويلة الأمد- جرت في كل قطعة أو قطاع أسلمتنا إلى هذه الحالة المذرية الكارثية التي نعيشها خارج التاريخ، والدنيا كلها، مع وجود أفراد، ووجود مجد سابق، وإمكانات إصلاح دائمة لكنها مدفونة في أرض بور!!
مرت بخاطري أغنية تأثرت بها جدا منذ سمعتها لأول مرة من "علي الحجار"... ويقول مطلعها:"متغربيناشي"... وتقولي قدر.. ومنها: "متغربيناشي في الأرض البور، واحنا الزراع..."..... وما جرى في مصر كانت له تأثيرات على غيرها، والحصاد العربي العام بائس بالطبع، وأنا مع الناس نتابع ذلك مشفقين وصابرين، والبعض يبحث عن وطن بديل!
كنت أتحدث إلى صديق، وأقول له: "لو كان حسن البنا حيا، ربما سار في طريق آخر غير ما يسير فيه الإخوان الآن!!"
قبل إطلاق النار عليه في شارع رمسيس بوسط القاهرة كان يتمنى لو عاد بالجماعة إلى زمن التربية، إلى ما قال عنه: سنربي أنفسنا حتى يكون منا الفرد المسلم، وسنربي بيوتنا حتى يكون فينا البيت المسلم، وسنربي شعبنا حتى نكون الشعب المسلم، وسنكون من بين هذا الشعب نسير إلى الهدف الذي وضعه الله لنا لا الذي وضعناه لأنفسنا.. الخ
تحت ضغوط المواجهات، وإغراء الانتصارات السياسية يغفل الإخوان أو يتغافلون عن أصل وظيفتهم، وهي التربية لأنفسهم وللناس، والبناء لمجمل الأوضاع، ويسود نهج التجميع من أجل تقوية الشوكة، بدلا من العلاج والتصحيح، والبناء للبشر والأنظمة الاجتماعية والعقلية. ويربح الإخوان في السياسة، أو يصبرون على الضغوط، بينما يخسر الوطن بالتأكيد في كل الأحوال، لأن الأرض البور تظل هكذا وتزيد!!...
لكن مشكلة من مشكلات الإخوان أنهم ظنوا ويظنون أحيانا، مثل كثيرين غيرهم- أن عندهم الحق والحقيقة الكاملة، وبالتالي لا يحتاجون كثيرا إلى تسديد أو مراجعة أو تصحيح مسار، ويعتقدون غالبا -مثل كثيرين- أنهم أفضل وأعلم، ولديهم ما ينبغي أن يسير وراءه الناس، ولا يعتقدون أن الناس مؤهلين للوصول إلى الحقائق، والعمل متعاونين لتحقيق البناء، وبالتالي يحتاجون فقط إلى ما يوقظ التفكير، ويثير التفاعلات، ويرفع ركام الصدأ عن الكفاءات والمهارات، ويعيد للناس ثقتهم في أنفسهم، وتاريخ بلادهم، وقدرهم على الإنجاز.
فارق بين الظن بامتلاك الحل والطريق أو الطريقة أو الحقيقة، وبين التعاون مع الناس في اكتشاف تفاصيل الخلل، وتدابير الإصلاح والعلاج، والعمل معا. فارق بين الظن بأن السياسة هي السبيل لإصلاح الأحوال، وأن الخلل ينحصر في تسلط عصابة من المجرمين مطلقي السراح، مرتدي الحلل الأنيقة، ورابطات العنق الفاخرة على مقدرات وطن عريق وقع أسيرا جريحا جائعا خائفا في قبضة حفنة من قطاع الطرق.
فارق بين النظر أو تركيز الجهد كله أو أغلبه في الكر والفر في التعامل مع تلك العصابة، وبين توزيع الجهد واستثمار واستنفار طاقات الناس في الإصلاح اليومي الشامل فعلا، وفي المعالجة النفسية والذهنية والاجتماعية والثقافية حقا!!
فارق بين محاولات الزراعة المتوالية في أرض بور لا تحصد إلا الهشيم كل حين، وبين إصلاح التربية بما هو أصيل وطويل الأمد ومرهق، وبطئ الثمار، ولكنه حقيقي وجذري وفعال، بل ممتد المفعول. فارق بين ما أراه من محاولات كتابة سياسية أو أدبية، أو محاولات إعلامية إخبارية أو حوارية في بيئة لا الكتابة ولا الإعلام فيها يبني شيئا، وبين التأسيس والتكوين والانتشار والعمل اليومي جهدا وإبداعا واجتهادا، وبحثا عن الحكمة، وملاحقة لأعماق البلاء، ودرءا لمصادر الفساد والإفساد!!
كنت أختم هذه الكلمات عندما وصلتني من إحداهن هذه الرسالة على المحمول:
The fact that we live once continues 2 sink in Perhaps there will not be tomorrow which makes me want to "speak" "truth" and "deliver" it right now before I shut up .forever
كم هي مؤثرة تلك الكلمات والحقائق البسيطة عندما تذكرنا بالمصير، وعجيبة هي تصاريف القدر في التوقيت والتزامن!!
اللهم ارحمني..
اقرأ أيضا:
على باب الله: محتاج طبيب نفساني؟! / على باب الله: كائنات منقرضة