بعد منتصف الليلة الماضية جلست أمام الكاميرا أرد على أسئلة السيدة اللبقة "منى عبد الغني" في برنامجها الناجح "حور الدنيا"، كنا نتحدث حول: هوس السوق، "علاء" الذي يقوم بإعداد الأسئلة يستفيد مما ننشره على مجانين، وعلى إسلام أون لاين، وجاءت النقاط التي يثيرها جيدة في عمقها واستيعابها.
كنت في انتظار دوري للحديث الذي تأخر- قد شاهدت مباراة البرازيل من المونديال، وبعدها أحدهم جلس يقلب القنوات الفضائية المتاحة لملايين المشاهدين العرب، وكلما رأيت المزيد من الصور يزداد هلعي!! تذكرت أنني أعتزل مشاهدة الشاشات المتصلة بالأطباق اللاقطة للبث الفضائي، وأفعل هذا متعمدا.
تذكرت سيدنا أبو الدرداء الصحابي الجليل الذي امتد عمره فشهد زمن الدولة الأموية، وحين تقدم لابنته نجل الوالي أو الخليفة رفضه زوجا لها، وسئل في ذلك، فقال: تأملت في حال ابنتي "الدرداء" وهي في القصر وحولها الخدم والدنيا، فأين دينها يومئذ؟!
كثيرا ما أتذكر وأذكر هذه المقولة، بل هذه الحالة، هذه النظرة للعلاقة بين الترف والإيمان، والترف هنا في زمن الدولة الأموية!!! وليس في عصر الدولة الاستهلاكية والترفية الذي نعيشه، وانتبهت لتوي للعلاقة اللفظية والمعنوية بين الترف والترفيه!!
عالم من السلع والتطلعات المادية: نساء لامعات، وأجهزة وموديلات لأجهزة تصوير أو اتصال أو سيارات أحدث وأغلى، أبراج سكنية تخرق السماء، وتتحدى من لا يجدون المأوى، أو يكاد يسترهم سقف وأربعة جدران، وأحيانا أقل!!
كانت "منى" تسألني عن الموديلات، وعن الشراء، وهل هو مرضي؟! وعن المرأة التي تريد أن تنفق أموال زوجها أولا بأول حتى لا يتزوج غيرها!! وعن علاج الاكتئاب بالاقتناء والتسوق!!
كانت الفقرة مقتضبة، وكلانا متعب بعد يوم عمل طويل، وتمنيت أن أسترسل لأشرح عن "الرأسمالية" بوصفها الدين الأوسع انتشارا، إلهه السوق، ومعابده الفخمة تملأ الأرجاء والأقطار أبراجا، ومراكز تسوق، حيث البشر مجرد خلفية للمشهد الأهم: السلع، والمعمار، وأجهزة سحب النقود، وشاشات العرض، وإعلانات البيع والتخفيضات، وأدوات الترفيه والتسلية, لا تطلب منك الرأسمالية أن تترك دينك، أو تخلع ملابسك، أو تنزع هوايتك، ولكنها تفعل بك هذا، وما هو أشد وأعمق بمنتهى النعومة والذكاء!!
هي بهدوء تتسلل عبر حواسك إلى حيث "الهاير وير" أي الإدراك والمفاهيم الحاكمة، والقيم المرجعية، ويلعب الفيروس لعبته في تغيير هذه الأنظمة ليصبح المرء ماكينة رأسمالية مخلصة!! ولا يعنيها أن تظل أسود البشرة، أو أن تطلق لحيتك، أو امرأة تغطي وجهها.
كيف يمكن شرح هذه العملية التي تخفى على كثير من الناس؟؟ بل أغلبية أهلنا في أوطاننا!! وكنا نتكلم قريبا من هذا في لقاء قريب لمجموعة الجنوب.
كثيرون في العالم يفهمون ويعرفون ويدركون أن لعبة البيع والشراء مثلا ليست محايدة، ولكنها محملة بقيم وتحيزات، وهناك مقالات عديدة متنوعة تحلل معمار مراكز التسوق وتأثيراتها النفسية والاجتماعية،"وسيد قطب" رحمه الله كتب عن "معركة الإسلام والرأسمالية" والبعض يتداول كلمات مثل: انتشار المادية واندثار الرومانسية، ولكن مازالت معابد الرأسمالية هي الأبنية التي تنتشر وتتكاثر أسرع من أي أمكنة أخرى!! أذكر أننا في فترة سابقة كنا قد تحمسنا للمقاطعة ردا على ما يحصل لنا وفينا، ووقتها قلنا أن المقاطعة سلاح فعال شريطة أن يدرك أهميته، ويحدد أولوياته، ويضع المتحمسون له خطة لتطويره، لأنه بطبيعته يتآكل إن لم يتطور!! أين ذهبت المقاطعة وقوائمها؟! من يفكر في هذا السؤال ربما يصل لما أريد شرحه.
الحاصل أن الرأسمالية قد ربحت هذه المعركة، وهذا لا يعني أنها كسبت الحرب، فقط إذا فهمنا نحن وتعلمنا من أخطائنا، فهمنا لعبة الرأسمالية وأدواتها وخططها وبرامجها: كيف تعمل وتنجح وتتقدم وتتوغل، وتربح معاركها على حساب البشر، وفي غياب وعيهم أو تخديرهم!! فهل هذا الفهم ممكن؟!
كيف أشرح وكيف أقاوم هذا الشعور بأن من يفهمون فينا بحق يبدون لي وكأنهم مجرد كائنات منقرضة تنفخ في قربة مقطوعة، بينما الأغلبية لا تفقه كثيرا مما يجري، فقط يرون الثمار وتفاصيل التفاصيل، ويغرقون ويبدون الطاقات في معارك الأزمة، ويستهلكون أسوأ معرفة متاحة في العالم تقريبا، ويتداولون معلومات أغلبها بلا قيمة كبيرة، وفنون وتسلية تزيد عن الانحطاط العقلي، والتخلف الثقافي والسلوكي!!
ثم حين يهربون من هذه المستنقعات فهم يلوذون بشكليات ورسوم الرقص الديني، أو ممارسات، أو أذواق، أخرى يائسة، أو جزر غارقة في اللاجدوى، حين تتحول الرومانسية بجلالة قدرها إلى أغنية عاطفية أو قصيدة شعر، ويتحول الجهاد إلى اندفاع شكلي مدمر، وتتحول الجذرية إلى كارثة لا تفيد أحدا، تتقلص مساحات الإنسان والإنسانية، فأين المفر؟!
اقرأ أيضا:
على باب الله: الأرض البور / على باب الله: قالت لي