على باب الله: أشباح بيروت
أستاذي الفاضل الدكتور أحمد عبد الله
منذ بداية العدوان الإسرائيلي وأنا أدخل يوميا لعدة مرات على موقع مجانين، مترقبة مدونة منك، كدت أشعر بالإحباط، وأنا أتساءل، لماذا الدكتور أحمد صامت في أوقات يجب فيها الكلام، ثم قلت في نفسي، لعلك تكون قد صمتّ لأن الصمت أبلغ من الكلام، كنت أقول لعلك صامت لأننا لم نعد بحاجة إلى الأحرف، بل إلى الرصاص والبنادق، واليوم صباحاً دخلت على موقع مجانين ورأيت مدونتك أشباح بيروت، فتنفست الصعداء.
أستاذي الفاضل، منذ شهر إبريل الماضي، منذ أن كتبت مداخلتك، بانتظار خديجة، وأنا في كل يوم أكتب لك رسالة أضمنها آرائي في كل ما تكتب، ثم أمحوها، أو أكتب أخرى وأتركها، ولعل هذا يجيب على سؤالك إلى أي مدى تصل كلماتك ومن يتفاعل معها. أستاذي الكريم، ربما، الآن تسكت كل الآراء والكلمات إزاء ما يحصل في بلدي لبنان، وأكتب تأكيدا لما كتبته في مدونتك الأخيرة، لأقول لك، في كل مرة تصيب الأمة مصيبة في بلد ما، تتكشف معادن الناس، ويتكشف مدى وعيهم، أو بالأحرى مدى جهلهم، ومدى ضيق الأفق يحاصرهم حتى الاختناق، سأبدأ بالقول، إن حزب الله، وحماس، وكل المجاهدين ليسوا بحاجة لنا بكل صراحة، لأن أناسا باعوا أنفسهم لله، ليسوا بحاجة بعد ذلك إلى البشر.
منذ فترة، حين بدأت مجازر الأطفال في غزة قبل وبعد خطف الجندي، كنت أشعر بشيء من الراحة النفسية لأنه لم تقم مظاهرات احتجاجية في لبنان وفي العالم حول ما يحصل في فلسطين، اللهم إلا ما ندر، وذلك لسبب بسيط، أن جماهير الشعوب العربية والإسلامية، متحمسة نعم، تشعر بالحرقة على ما يحدث، نعم، تتمنى أن يفتح لها باب الجهاد لتجاهد في سبيل الله نعم، ولكن أمام كل العوائق أمام مشاركتها الفعالة في صناعة الحدث، تتظاهر يوماً يومين، عشرة، ثم ينتابها شعور أنها أدت قسطها للعلا، فتنام!
كأن هذه المظاهرات هي نوع من المخدر النفسي يشعر الشعوب بالنشوة بأن ما فعلته كاف، وتصبحون على خير! تظاهرنا ضد العدوان على فلسطين، ثم نمنا، فخنق الفلسيطينيون في غزة والضفة، بين جدار عازل، وحدود رفح، وأمعن الجزار الإسرائيلي فيهم قتلا بالسكين أمام مرأى ومسمع الناس، وماذا بعد؟ أدينا قسطنا للعلا، تظاهرنا، لا تلومونا يا جماعة! تظاهرنا ضد الحرب على العراق، أخذنا حقنة المخدر إياها، ثم نمنا.
وها هو العراق يغرق في مستنقعات الدم، إذا ضرب الشيعة ضربة يشعر بعض أهل السنة بزهو شيطاني لأن عدو عدوي صديقي!، وإذا ضرب السنة في العراق، سكت الشيعة، وقامت قيامة السنة بأن الروافض الكفرة اتفقوا مع الأمريكان لإبادة السنة، والنتيجة؟ العراق في مستنقع الدم، والمسلسل لم ينته بعد.
اليوم في بلدي الحبيب، يحدث نفس الشيء، مظاهرات في كل أنحاء العالم تستنكر المجازر، وإسرائيل لا تأبه، ما زال جزارها يعمل فينا، والولايات المتحدة هي الولايات المتحدة، في كل مكان، بصلفها وعجرفتها ومشروعها، و.. أفهم الولايات المتحدة، أفهم إسرائيل، أفهم أطماعهما وأفهم خلفياتهما العقدية، ولكن ما لا أفهمه، أن يكون هناك شامت بحزب الله حتى من قلب اللبنانيين، منذ يومين اتصلت بي صديقة من أيام الجامعة في الساعة الثانية عشرة ليلاً، أيقظتني من عز النوم، لتسب حزب الله والمقاومة الإسلامية، وتنوح وتبكي على موسم السياحة والجسور التي دمرت!
وعندما خضت معها نقاشاً ضروسا دفاعا عن المقاومة والسيد حسن نصر الله قالت لي كنت أظنك ما زلت تفهمين، ثم أقفلت الخط في وجهي! بالحقيقة أنا أشعر بالفخر لأني اتهمت بأني قليلة الفهم، لأول مرة أشعر بالفخر بأن يتهمني أحدهم بالغباء، إذا كانت الدفاع عن آخر معاقل الممانعة غباء أنا غبية، إذا كنت متهمة بأني من مناصري "الحلف السوري الإيراني" في المنطقة، أنا مذنبة حتى النخاع.
إنها قضية الولاء والبراء، لو كانت هذه التهمة صادقة، أنا أقبل ألف مرة أن أكون في المشروع السوري الإيراني على أن أكون للحظة في ركب المشروع الأمريكي الصهيوني، أقبل مليون مرة أن أكون مناصرة لحزب الله، وأنا مسلمة سنية بالمولد والهوية، ولكني اخترت طوعاً وعن قناعة تامة أن انزع عن إسلامي صفة المذهبية وأكون مسلمة فقط، ولا أقبل مرة واحدة أن أتمترس خلف طائفيتي لأتهم حزب الله بتهم طائفية سخيفة وأنا أراه يعمل في وسط بحر من الدول العربية أغلب ساكنيها من المسلمين السنة، ولم يتغير اتجاه بوصلته.. فلسطين والقدس، ولبنان كله والأمة كلها.
هل تعلم يا أستاذي الفاضل أن الأسير سمير القنطار لا سني ولا شيعي، بل هو من الطائفة الدرزية! هل تعلم أن حزب الله تبناه فيما زعيم طائفته دخل في الركب الصهيو- أمريكي منذ سنين طويلة؟ يقولون إذا انتصر حزب الله على إسرائيل سوف يلتفت إلينا نحن أهل بلده ليدمرنا ويقمعنا ويقيم دولة إسلامية شيعية في لبنان! سبحان الله، حزب يمتلك كل هذه الإمكانات، معه أسلحة تفوق كل ما كان مع المليشيات اللبنانية إبان الحرب الأهلية، يمتلك تنظيما عالياً، يمتلك قدرة تعبوية رائعة، يمتلك قضية، لو أراد أن يبني دولة إسلامية شيعية، لماذا لم يوجه أسلحته إلينا من قبل؟
حزب الله أمام الهجمة الداخلية والخارجية عليه قلب الطاولة على الجميع، انسحب من فتنة الصراعات الداخلية الطائفية، وعرف -كما كان يفعل دائماً- على من يطلق النار، وأين اتجاه المعركة الحقيقية، فهل هذا حزب طائفي؟ أعود فأشير أنني والله لست من حزب الله، ولم أكن قريبة منه تنظيميا في يوم من الأيام لم أكن قريبة منه إلا من الناحية الوجدانية لشدة ما احترم مواقفه السياسية ودفاعه عن الأرض والعرض، ولكنها قصة ولاء وبراء، قصة ان تحدد بوصلتك، مع من تكون، مع من تقف، مع من تختار الموت والحياة.
منذ تولت حماس الحكومة في فلسطين، ودخلت في معمعة السياسة، وحاولت أطراف جرها إلى مستنقع الحرب الأهلية الآسنة بسبب مطامعهم القذرة، ومنذ أن رأيت حسن نصر الله ينزل من عليائه بكل تواضع ليجلس على طاولة الحوار اللبناني أمام منافقي السياسة وزعماء الحرب الأهلية السابقة في لبنان، انتابني شعور بأن السياسة بدأت تلوث طوباوية وطهرانية حماس وحزب الله كحركتين مجاهدتين ولكنهما كذبا شعوري هذا، حين عادا إلى ساحات الجهاد، وأعادا للبندقية ألقها..
لا يفهم الكثير من الناس أن القضية ليست قضية لبنان، بل هي بالأساس قضية فلسطين، فإذا انهار آخر معاقل المقاومة اليوم، فإن فلسطين ستضيع لا سمح الله، وأن البلدان العربية ستسقط الواحدة تلو الأخرى وأن أمريكا ستتعامل معها كملفات في أرشيف، تسحب في كل سنة ملفا، تسويه حسب ما تريد، ثم تعيده إلى الرف، لا يفهم الكثير من الناس كل هذه المعاني، إذ أصبحت عقولهم محدودة بالحدود التي رسمها الاستعمار قبل أن يخرج من بلادنا من الباب ليعود من الشباك، ولكن لعل هذه الأمور من سنن الله في خلقه، إذ دائما كان هناك المثبطون والمنهزمون ومن قالوا لنبيهم اذهب أنت وربك فقاتلا، ومن قالوا ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل..
أستاذي الفاضل، أول أمس زفت المقاومة الإسلامية شهيداً من شهدائها، يبلغ الثامنة والأربعين من عمره، مجاهد منذ الثمانينات، أي عقد ظهور حزب الله كقوة ومشروع مقاوم، هل تدري ما الذي يميز هذا الشهيد عن غيره؟ رجله مبتورة منذ عام 1990!!!!!! كان يقاتل برجل واحدة في الجبهة المتقدمة بالله عليك، قل لي، هل مثل هؤلاء القوم يحتاجوننا؟ أم نحن نحتاجهم، هل نحن من ندعم صمودهم أم هم من يعطوننا الأمل بالحياة؟ ليسوا بحاجة لمظاهراتنا، وليسوا بحاجة لنا، بل نحن بحاجة لهم لنعرف كيف ننبعث من جديد من بين الرماد..
أما المتباكون على جسور لبنان وموسم الاصطياف، فأقول لهم نحن اللبنانيون عشنا في أتون الحرب ما يزيد عن سبعة عشر عاماً، حرب أهلية مجنونة، أناس تذبح على الهوية، مناطق تهدم شعب هجر من بيوته، زعماء حاربوا من أجل أطماعهم وحاربوا من اجل قوى خارجية وتحملنا نزقهم ومغامراتهم وتحملنا همجيتهم وتحملنا صلفهم، ثم تحملناهم مرة أخرى حين رأيناهم يطلون علينا في المجلس النيابي وفي مواقع السلطة ويهم يلبسون ثياب الوطنية والحرص على مصلحة الوطن!
لا زلت اذكر تماماً الزعيم المسيحي أمين الجميل الذي تولى رئاسة الجمهورية، حين قرر في مرة من المرات أن يشن حربا ضروساً على الضاحية الجنوبية وهو يحلم بأن يجعلها الحديقة الخلفية للقصر الجمهوري في بعبدا بينما إسرائيل كانت تحتل لبنان حتى مدينة صيدا! فإذا كنا قد قتلنا ودمرنا وشردنا من أجل نزق هؤلاء، فمرحبا بمغامرة حزب الله لأنها المرة الوحيدة التي يغامر فيها فريق لبناني من أجل قضية شريفة لا تتعلق بالوطن وحده بل بمصير امة بكاملها.
آسفة للإطالة عليك ولكنها أفكار انسالت مني وأنا اقرأ مدونتك اليوم، وربما تكون الإطالة نوعا من التنفيس عن كل ما دار في خلدي وأنا أتفاعل مع مدوناتك من قبل أو ما كتبته على الورق ثم جبنت عن إرساله لك تحية من لبنان.
اقرأ أيضا:
شكرا منظمة الصحة وفي انتظار المزيد/ تحيا كوريا الشمالية: يحيا حزب الله/ ساعات سكينة: ساعة الأخبار/ اغتيال الحرية: لبنان عروس العرب/ شيزلونج مجانين نوم في غير وقته/ قاتلوا إذن معنا