ساخن من لبنان: دفقة أمل(1)
ساخن من لبنان: معرض الفكرة السيئة
حين نسي أيمن بعضاً من أقلام التلوين عندي، لم يكن يعلم ولم أكن أنا أيضاً أعلم أنه سيغادر لبنان سريعاً مع أهله في قافلة الجالية الجزائرية التي كانت مقيمة في لبنان، وأيمن يبلغ السادسة من العمر، مقيم مع أهله في لبنان منذ حوالي الأربع سنوات، هناك أمر غريب في قصة أيمن مع العدوان الإسرائيلي، فقبل بدء العدوان بوقت طويل، ومنذ بداية السنة الحالية، تغيّرت تصرفاته بشكل ملفت للنظر، إذ بدأ يصاب بنوبات هلع غريبة، وبكاء وقلق شديد خاصة حين يكون في المنزل مع أخته وحدهما، مع أنه تعوّد ذلك وكان يتعامل مع انشغال والدته بالتحضير للدراسات العليا بشكل عادي جداً.
سبب خوفه وبكائه كما يشرحه هو بكلماته الطفولية هو "الفكرة السيئة" وكان موضوع الفكرة السيئة إحساسه الدائم أن الجنود "الإسرائيليين" قادمون لقتلنا! ومع أنه لم يكن هناك أي اعتداءات إسرائيلية في ذلك الوقت، استغرق الأمر معنا ما يزيد عن الستة أشهر لإقناع أيمن بأن الإسرائيليين لن يأتوا إلى لبنان لأنهم يخافون منا، ولأن حزب الله انتصر عليهم قبل أن يولد وهربوا من لبنان، ولم يكد المسكين يصدق كلامنا، حتى بدأ العدوان!
كانت أمي تتندر في بداية العدوان حين يدخل إلى بيتنا، وهو زائر دائم بالمناسبة، فتفتح له الباب وتقول له ضاحكة: أهلاً بالشيخ أيمن، في إشارة منها إلى أن الله كشف عنه الحجب ورأى ما سيحصل قبل حصوله.. حين كانت الاعتداءات في الجنوب، وبدأ كلام الناس كانت أمه تهدئه بالقول إن ما يحصل يحصل في فلسطين، ولكن عندما بدأ قصف الضاحية الجنوبية لبيروت لم يعد هناك مجال لمداراة الأمر عنه، خاصة مع أصوات الصواريخ القوية التي كنا نسمع أصداءها في أرجاء العاصمة، وتفاقم الأمر حين جاء صديقه مع عائلته هاربين من جحيم القصف في الضاحية فأقامت العائلتان في نفس المنزل.
وكان تعامل أهل صديقه مع ابنهم الذي هو في سن أيمن، مفرطاً في تخويف الطفل حيث كانوا يقولون له كلاماً من قبيل أن اليهود سيقتلوننا وانك ستموت شهيدا وتشفع لنا في الجنة، وذلك بحجة أن الطفل يجب أن يعرف كل شيء! ونتيجة لذلك، امتنع صديق أيمن عن تناول الطعام من شدة توتره، وأخذت تنتابه حالات قلق، لم يستطع معها أن ينام في الليل أيضاً، المهم أن أيمن، حين عرف الحقيقة، أخذ يسرّ في أذن أمه "رجعت الفكرة السيئة" وعادت نوبات الهلع والبكاء وهذه المرة حتى مع وجود والدته!
لا أدعي أنني خبيرة إرشاد نفسي، ولكني أحب الأطفال كثيراً، وركزت قراءاتي لمدة سنتين عن كيفية التعامل معهم، فخطرت على بالي فكرة، طلبت من أم أيمن أن تجربها، قلت لها أحضري أرواقاً وأقلام تلوين، وكلما قال لك أيمن عادت الفكرة السيئة، قولي له ارسم الفكرة السيئة على ورق، وعندما تنتهي الحرب تعدك "خالتو أمل" أن تعمل لك احتفالاً ومعرضاً لرسوماتك نسميه "معرض الفكرة السيئة"، وبعد انتهاء المعرض نمزق كل الأفكار السيئة التي رسمتها حتى لا تعود!
ونجحت الفكرة، أوراق وأقلام، وصور كثيرة رسمها أيمن، خففت الكثير من التوتر الذي كان ينتابه، حتى كاد في بعض اللحظات أن لا يشعر بشدة القصف الذي كان تتردد أصداؤه، ومع الرسومات، كانت تضحكني أفكاره البريئة عن كيفية التغلب والقضاء على الجيش الإسرائيلي، كلها مقتبسة مما يشاهده على التلفاز، من قبيل نصب شبكة كبيرة يقع فيها كل الجنود ومعداتهم، أو من قبيل الدعاء بأن يخطئ الجنود في الضغط على زر إطلاق الصاروخ فينزل عليهم بدل أن ينزل علينا..
وبعد سفر أيمن، جاءتني زميلتي في العمل تسألني: ماذا تقولين لطفل في السادسة، حين يبقى ساهراً حتى الحادية عشرة والنصف وهو يريد أن يعلم ماذا نفعل لو جاء اليهود وقصفونا؟؟ هل أقول له إنهم لن يقصفوا، فيحدث قصف وحينها أظهر بمظهر الكاذبة؟ ولن يصدقني بعدها، أم اشرح له، وساعتها لن ينام طوال الليل؟ اقترحت عليها بعض الأفكار العملية، ونصحتها بأن تغير أسئلة ابنها بلفت نظره بأسئلة أخرى تثير ضحكه وتستفز خياله بطريقة كوميدية تريح بعض تشنجه من قبيل اقتراح أفكار حول كيفية إخافة الصواريخ حتى تهرب منا.. ولكنها لم تقتنع..
أسهبت في شرح بعض ما شاهدته من حالات الأطفال، لأضعه في رسم كل مستشاري مجانين، لأننا بحاجة ماسة إلى إرشاد نفسي في كيفية التعامل مع تساؤلات وتصرفات الأطفال خلال فترة الحرب وبعدها، وإذا كان من شرحت عنهم حالاتهم مخففة فهناك حالات أخرى أكثر صعوبة هي حالات النازحين من القصف واللاجئين إلى المدارس، أو ممن أصيب أهلهم أو من فقدوا أهلهم، أو ممن يسمعون أو يرون بأم العين الاعتداءات الوحشية الإسرائيلية على الأطفال الذين هم في سنهم وربما أصغر، في هذا المجال نحن أمام حاجة حقيقية للمساعدة، علماً أنه في دائرة المدارس الإسلامية التي أعرفها في بيروت، يقيم ناشطون في مجال الإغاثة دورات قرآنية وأنشطة أخرى تجمع الأولاد في تلك المدارس وتلهيهم لبعض الوقت عما يحصل حولهم، ولكن تظل الحاجة ضرورية إلى تعلم كيفية تقديم الإسناد النفسي بشكل مبسط وفعال للأطفال..
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تتعدى لبنان إلى جميع العالم العربي والإسلامي، وبعد أن رأيت صور أطفال اليهود يوقعون على الصواريخ التي سيقصف بها لبنان، شغلتني أسئلة كثيرة جداً، تفتح أبواب واسعة للتفاعل وطرح الاقتراحات.. أمام مثل هذه الصورة التي تعكس عمق التلقين المركز على ثقافة الاعتداء والقهر والاستعلاء والفوقية التي يتلقاها أبناء اليهود منذ نعومة أظفارهم، وحشو أدمغتهم بالأساطير التي تحكي عن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في تاريخهم وتسوغ الاعتداء على الأمم الأخرى بحجة "الدفاع عن النفس" وبحجة الانتصار لقضيتهم "العادلة" يبرز سؤال ملح؟ علام نربي أطفالنا؟
وهل ينفع في مواجهة عدو بهذه الشراسة المادية والفكرية والعقدية يورث شراسته لأبنائه جيلاً بعد جيل، أن نبقى نحن مكتوفي الأيدي وأن يبقى أطفالنا بمنأى عن ذلك كله حفاظاً على "براءتهم"؟ ما هي الخطوط العريضة لثقافة الممانعة التي يجب أن نحصن بها أبناءنا؟ ما هي سبل الحؤول دون توريث الهزيمة والانكسار النفسي الذي تعانيه شعوبنا العربية والإسلامية إلى أبنائنا؟ وكيف يعدّ الجيل الذي ضاعت في زمانه فلسطين الجيل الذي سيسترد فلسطين؟ هل نستطيع أن ننجح في إعداد جيل قادم يكون فاعلاً بدل أن يكون مفعولاً به مثل حالنا؟ هل سننجح في توظيف انتصار المقاومة في لبنان وفلسطين في وجه الآلة الصهيونية الغاشمة في تلقين أطفالنا سفر الانتصار في زمن الانكسارات والهزائم وكيف؟ كلها أسئلة برسم المثقفين والمهتمين.
ويتبع>>>>>> : ساخن من لبنان: دفقة أمل (3)
واقرأ أيضاً:
قانا...مذبحة إسرائيلية جديدة / مؤتمر دمشق لأطباء النفس العرب (3) / البحث عن عباس مشاركة