لبنان في القلب مكانه غالية على الرغم من أن قدماي لم تطأ ثرى هذه البلد الغالي إلا أني زرته بمخيلتي آلاف المرات عن طريق الكتب والتاريخ والأصدقاء والمعارف اللبنانيين وما أكثرهم عندي فأهل لبنان مثل أرضه يمتلئون طيبة وشهامة وكرم ومرح وثقافة وجمال.
لبنان قاسم مشترك في معظم ذكرياتي... ذكريات الطفولة والصبا والشباب فلا ذكرى غالية يحملها قلبي إلا وقد حفرت كلمة لبنان عليها حتى أصبحت كلمة (لبنان) كفيلة بأن تنبه حواسي الخمسة عندما تتردد على مسامعي، فأرى ربوعها الخضراء وأشم طيبها الذي كنت أشمه في أهلها وأستطعم أكلاته الشهيرة التي طالما تذوقتها وأسمع أناشيدهم الآتي طالما تغنيت بها أما الإحساس فحدث ولا حرج.
أذكر أول خبرة لي بلبنان عندما كنت مع عائلتي في المملكة العربية السعودية ومع أول يوم لي في المدرسة الذي كنت أحس فيه بمرارة الغربة وعجزي عن فهم اللهجة بل ومشاغبة البنات زميلاتي لي بأني ذات شعر أحمر ولست سوداء العين فأغرق في بكاء مرير فإذا بالأستاذة مريم اللبنانية تدخل على الصف لتحتضني وتقول لي: وما يعني في ذلك لا تحزني هم فقط يستغربونك كما تستغربينهم أنت.
وكانت تعاملني كأني ابنتها فحتى ذلك الحين لم يكن الله قد من عليها بالأولاد وبقت صورة معلمتي اللبنانية طابعة في خيالي إلى الآن برقتها وعطفها وجمالها على الرغم من صغر سني وقتها، وعندما انتقلت أسرتنا للعيش في مكان آخر وإذا بالباب يدق علينا لنجد السيدة أم غسان تأتي لزيارتنا والترحيب بنا ومن خلفها كان يختبأ غسان الذي أصبح فيما بعد صديق الطفولة
وبدأت علاقتنا تتأصل بهذه الأسرة الرائعة فقد كنت أقضي معظم وقتي معهم بل وكثيرا ما كان يمر اليوم بأكمله وأنا مع أطفالها نمرح نلعب ونتغنى وطالما علموني كيف ألعب ألاعبهم ولطالما حقولي عن بلدهم حتى أني كنت اعتقدت أنه في عالم آخر وهكذا ظلت طفولتي في المملكة العربية السعودية مع هذه الأسرة وجيراننا على الجانب الآخر الفلسطينيين أما السيدة أم عبير السورية فقد كانت أحرص السيدات على جمع شملنا نحن الأسر.
ورجعت إلى مصر مفتقدة صديقي غسان وأخواته كلهم ومعلمتي مريم بشدة، وبدأت عهد الصبا في مصر مقنعة نفسي بأن في يوم من الأيام قد أقابلهم مرة أخرى لذا فلم يغيبوا عن خاطري أبدا، أما أحلام الصبا كلها فقد شاركت في سطرها السيدة فيروز مطربتي المفضلة دائما والتي تعج غرفتي بكل أشرطتها فلا أعتقد أن هناك أغنية تغنت بها السيدة فيروز لم أسمعها فقد كان صوتها يزيدني ارتباطا بلبنان ويجول بي في طرقاته وربوعه ويحضر لي كل أحبائي الذين افتقدتهم.
لا لم تفارقني لبنان يوما فصدا اسمها يملئ حتى منزلنا حتى أبي طالما حكي لي عن هذه البلد وعن تاريخه وحتى عندما بدا أخي الأكبر في العمل كان حظه أن عمل في شركة لبنانية فكان يأتي كل مساء يحكي لي عن ماذا جد عليه من أخبار عن لبنان وأهله أما أنا فعندما كنت أسمع أن شخص ما زار لبنان فكنت أصر أن يحدثني عن زيارته وأستمع له بكل حواسي وكأني أسمع لأنشودة أو قصة محبوكة الصياغة.
وبمرور السنين حدث أن تعرفت على أسرة لبنانية كنت أعيش معهم أحداث حياتهم أول بأول وكأني واحدة منهم فتأتي لي أخبار زواج أحد الأبناء وإنجاب الآخر ووصل أول حفيدة في الأسرة حتى أخبارهم الحزينة كنت أشاطرهم إياها فقد كانوا أقرب الناس إلى قلبي ولا زالوا وسيبقوا.
أما من هي صديقتي المفضلة؟ فهي ندا اللبنانية مخزن أسراري التي تظهر دوما وقت احتياجي لها بدون أن اسألها فإذا بها تأتي إلي بخفة ظلها ومرحها الغير عادي وكلماتها الواثقة فهي عندها قدرة على الظهور في أي وقت وبأي شكل كأنها جان تارة تطل علي من الهاتف وتارة تطل علي بحقيقتها وحتى الإيميل والماسنجر لم تدعهم ندا إلا وطلعت علي من خلالهم.
لقد آلمني ما يحدث للبنان جدا ألم عظيم أجد نفسي بقلب مفطور أهرع إلى قنوات التلفزيون والصحف والإنترنت أستقص أخبار هذا البلد الغالي يجرفني حزن عميق، فقد تفجرت مع القنابل مشاعري تجاه لبنان لأكتشف أن به حبا عميقا له فلم أكن أعلم أني عاشقة لهذا البلد إلى هذا الحد وكأن الأقدار منذ الأزل قدرت لي هذا الارتباط الروحي بهذا البلد فأرى في وجه كل لبناني صورة أحبائي وأصدقائي.
يقتلني العجز والصمت والضعف الذي نحن فيه وتكالبنا على نهش هذا البلد وغرس السكاكين في قلبه قبل أعدائه، لقد فضحتنا الحرب جميعا وأسقطت ورقة التوت التي كانت تسترنا فكشفت عن جهلنا وكرهنا لبعضنا البعض وتخاذلنا وقلت إيمانا وهواننا وذلتنا، ولا أجد ما أصف به حالنا غير بعض الأبيات الشعرية التي نظمها شاعر العامية كامل رمضان عن الحرب الأهلية في لبنان عام 1984لياتي عام 2006 المليء بالشجون ويذكرني مرة أخرى بهذه الأبيات:
هي كده بيروت
ست الصبايا الحب والمعنى
شاخت ورا بابها وتكفنت بالتوت
هي كده بيروت
لا خل ولا شفعه والأمر في المخطوط
هي كده بيروت
ذبيحة ورا بابها والدم سايل عوم
واحنا الندامة الشوم
واقفين بنتفرج لا احتشام ولا لوم
ملعون يا داء السكوت والانتظار ملعون
يحزنني أن تكون أول مرة أكتب عنك يا لبنان في هذه الظروف ويحزنني أن تكون كلماتي عنك حزينة فلطالما أسعدتني ونشرت في قلبي السعادة فما أكثر الذكريات الجميلة التي أحملها لك ولا هلك فلم تعطيني إلا كل ما هو جميل، لأول مرة تختفي من على وجهي الابتسامة التي دوما ما كانت مقرونة بذكر اسمك ليحل محلها دمعة تتساقط حزنا.
وهذه دعوة مني إلى كل قراء موقعنا والى كل ما زال يجري في دمه عطفا وإيمانا بأن نتضامن سويا لمساعدة إخواننا في لبنان ودعوة مني لكم لمساعدة أحبائي وأصدقائي في لبنان، كفانا صمتا ولنجاهد حتى بالكلمة أو بالمقاطعة أو حتى بالدعاء ومرحبا بمن يقدر على أكثر من ذلك، حقا ملعون يا داء السكوت ملعون ملعون ملايين المرات.
واقرأ أيضاً:
منبر ثقافي آخر يعلو / نظرية الضرب على القفا