ساخن من لبنان: دفقة أمل(2)
ساخن من لبنان 3: فلسطين..كم أنت قريبة
تمكن المسعفون والإعلاميون منذ يومين من دخول بنت جبيل التي فشلت الآلة الصهيونية الغاشمة في احتلالها رغم وحشية الاعتداءات عليها.. الداخلون إلى بنت جبيل قالوا إنها تحولت إلى أنقاض.. فالمدينة الصغيرة الوادعة نالت في اليوم الأول من محاولات التوغل الصهيونية خمسمائة غارة فقط خلال ست وثلاثين ساعة! هذا غير القصف البري والبحري والمعارك المباشرة، ومع ذلك استعصت على الغزاة..
وقد حال حجم الدمار دون حرية تنقل سيارات الإسعاف في أرجاء المنطقة، فاضطر المسعفون والصحفيون إلى الترجل باحثين عن جرحى أو جثث شهداء، وفوجئوا بمجموعة من النساء والرجال طاعنين في السن، يجلسون بجوار حائط متداعٍ، وقد حال وضعهم الصحي وتقدمهم في السن بينهم وبين مغادرة ساحة المعركة، الطرفان فوجئا ببعض، الناجون فوجئوا بوجود ناس في المنطقة، والمسعفون والإعلاميون فوجئوا بوجود ناجين..
كان الناجون في حالة يرثى لها، فاضطر المسعفون إلى حملهم ليبلغوا سيارات الإسعاف، ولم يقتصر الجهد على المسعفين، إذ شارك فيه صحفيون ومصوّرون، ومن بينهم وائل اللاذقي مصور لبناني، هاله المشهد الإنساني المأساوي فرمى كاميرا التصوير، وحمل إحدى العجائز وركض بها إلى نقطة ماء ثم حملها مصور آخر حتى وصلوا بها إلى سيارة الإسعاف.. والتقطت صورة له وهو يحملها نشرت في الصحف المحلية اللبنانية.
وفي لقاء تلفزيوني مع الفنيين الذين يغطون الاعتداءات الإسرائيلية من وراء الكواليس، سئل وائل عن هذا الموقف الإنساني، فقال: حدث معي شيء عجيب، فحين حملت هذه المرأة العجوز، أخذت تدعو الله بأن يحفظني ويحميني، ثم بدأت تُعَتِّبُ لي عن المقاومة والانتصار والسيد حسن نصر الله!!! (وكلمة تعتّب بالعامية اللبنانية معناها أنها بدأت تغني نوعاً من الأهازيج الشعبية التي ترتجل كلماتها ارتجالا، وهو فن معروف في بلاد الشام باسم العتابا، وبالتالي عتّب أي غنّى العتابا)!
أورد هذه القصة لأقول لكم إني بكل صراحة لا أخاف على مجاهدي حزب الله مهما اشتدت وطأة المعركة، لأنهم أولاً في عين الله، ولأنهم يسكنون في حبات قلوب الناس، يستوطنون مهجهم، يختلطون بدمهم ويشكلون جزءاً من كينونتهم.. يسكنون في براءة الأطفال، وفي قصة العمر العتيق في وجه العجائز، ومعهم يسكن حلم الانتصار المتوقد الذي لا يذبل ولا يذوي ولا يأفل..
ولكنني حين أسرح بتفكيري بعيداً ينتابني شيء من القلق من معركة ما بعد المعركة، وأقصد بها المعركة السياسية، خاصة وأنا أرى الأمم قد تكالبت عليهم، وبعض الساسة اللبنانيين قد شحذوا الخناجر ليطعنوا في الظهر، خاصة وأنا أسمعهم يحيون خطاباً قديماً مستغرقا في السفاهة، يتحدث عن "حرب الآخرين على أرضنا" ومطامع من لا يريدون للبنان الاستقرار! تتجاذبني الأفكار، بين فكرة متشائمة وفكرة متفائلة، فيعجبني أن أستغرق في التفاؤل.
وأرجع في الذاكرة إلى السيرة النبوية يوم غزوة الخندق، حين تكالب اليهود والمشركون على المسلمين، وبلغت القلوب الحناجر من شدة وطأة الموقف، فكان لطف الله، الذي حمى به المؤمنين وكفاهم القتال، وألقى في قلوب الكافرين الرعب وأغرى بينهم العداوة.. وما أشبه اليوم بالأمس، وها أنا واثقة بنصر الله، وواثقة بأن الله سيكفي المجاهدين شر تكالب الأمم عليهم تماماً كما كفى المؤمنين يوم الخندق..
وخلال التفكير في هذه اللحظة التاريخية وقفت ملياً عند فعل رسول الله حين بدأ المسلمون بحفر الخندق.. حين ضرب الصخرة فوقعت فلقة فقال: الله أكبر قصور الروم ورب الكعبة، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة، فقال: الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة، فقال عندها المنافقون: نحن بخندق، وهو يعدنا قصور فارس والروم! وما أشبه اليوم بالبارحة.. ونحن نسمع منافقي هذا العصر، ممن اعتادوا أن يرتعوا في مستنقعات الذل والهوان، وهم يستهزئون بالفعل المقاوم ويتهمونه بالتهور..
وما أشبه اليوم بالبارحة، وأنا أرى حزب الله يمطر العدو داخل فلسطين بصورايخ خيبر.. فأوقن ببشائر نصر عمِيَ عنها المتخاذلون.. لا يدّعي حزب الله أنه يستطيع تحرير القدس، وهو يطلق الصواريخ على تجمعات العدو في الأرض المحتلة ضمن معادلة توازن الرعب، ولكنني لا أستطيع أن أمنع قلبي من أن يرفرف فرحاً، وأنا أسمع أسماء المدن الفلسطينية، حيفا.. طبريا.. عكا.. بيسان..
لست أدري لماذا يخيّل إليّ كأنما فلسطين محبوسة في بلورة ونحن نتحلق حول البلورة وننظر إليها وهي تسلب ويذبح شعبها دون أن يجرؤ أحد على كسر الزجاج الواهن والدخول لإنقاذها، أو كأنها محبوسة في جبل جليدي شفاف، نرى ما يحدث فيها ولكن هذا الجبل يحول بيننا وبينها.. واليوم مع كل صاروخ خيبر يسقط على مواقع العدو في المستوطنات والمدن.. أشعر أن البلور بدأ يتشقق، وأن الحائط الجليدي بدأ يتصدع.. وقريباً سيسقط.
لا أستطيع مع كل صلية صواريخ إلا أن أشم رائحة زعتر فلسطين البري، وأذوق طعم برتقال يافا، واتفيأ في ظلال زيتونات الضفة، وأسرح في شوارع القدس العتيقة، وأصلي تحت قبة الصخرة، وأسمع أجراس كنيسة المهد.. لا أستطيع كلما سقطت صلية صواريخ على تجمعات العدو الغاصب في أرضنا المحتلة إلا أن أرى عروشاً من ورق تتهاوى، لا استطيع إلا أن أسمع، صوت حديد ساخن يفلّ حديد القيود التي تكبّل شعوبنا.. فتتدفق كسيل العرم لتغرق حصون العدو، وتحرق شجر الغرقد.
لا أستطيع إلا أن أرى أهل فلسطين المشردين في منافي الأرض وهم يمشون في قوافل العودة.. لا أستطيع إلا أن أرى الجيش الذي لا يقهر قد أصبح هشيماً تذروه الرياح، ولا استطيع إلا أن أرى المغتصبين وقد مزقوا شر ممزق.. متطرفة أنا في أحلامي نعم.. ولكني لا أملك أن أكبت هذا الصوت الذي ينادي من أعماقي مع كل صلية صواريخ يطلقها حزب الله:.. فلسطين.. كم أنت قريبة.
ويتبع>>>>>> : ساخن من لبنان: دفقة أمل (4)
واقرأ أيضاً:
قانا...مذبحة إسرائيلية جديدة / مؤتمر دمشق لأطباء النفس العرب (3) / البحث عن عباس مشاركة