وصلتني رسالتها غاضبة تقذف بالحمم كما البركان الثائر. أعجبني أن هناك من يقول لي: لماذا؟ وكيف تجرؤ؟ وما هذا التناقض؟!
ولكنها مارست المعتاد حين هاجمت دون معلومات كافية، وحين انساقت وراء مشاعرها السلبية، ووراء المناخ العدائي الذي نعيشه تجاه بعضنا البعض حيث التسرع بالاهتمام، والاندفاع إلى سوء الظن، وغياب تقدير الظروف والتماس الأعذار، وتزامن هذا مع عتاب أخرى تكرر بأدب وحسرة، وتتحدث فيه عن أخطاء، وأسأل وأندهش: ما هي أخطائي فلم أظفر بجواب!!
كل ابن آدم خطاء، والخطاء هو كثير الأخطاء وأنا أخطئ مثل كل إنسان، ولكنني أندهش، وأتألم لبعض الوقت حين أرى الهجوم، أو العتاب غير المستند إلى دعامات أو أسس تبرره أو تعطيه المشروعية، ولكن يبدو أن هذا قد صار جزءا من حياتي أو حياة كثيرين!!
والأولى كانت تقول: أنت تصرخ في الناس أن يهبوا وينشطوا من أجل لبنان ثم تسافر للمصيف في الساحل الشمالي!!
تكتب عن لبنان الصامد ثم تروي عن سهرات هناك، وعن الشعب الذي ليس كمثله أحد!! وكأن السهرات لابد أن تكون ماجنة!!
ولمن لا يعرف فإن "النزوح" السنوي إلى الشمال، وأنا هنا أتحدث عن المصريين في حركتهم الصيفية إلى الإسكندرية وما حولها، هذا النزوح صار له طقوسه وأصوله وصعوباته وخرائطه، ولما كنت لا أملك مكانا وسط من يملكون هناك، فلم يكن من مفر حين لاحت فرصة بمكان يملكه أصدقاء، ولن يكون فارغا إلا في هذه الفترة، وأمام ضغوط الأولاد، ذهبت للساحل كما تذكر صاحبة الرسالة، ولكن الذي لا تعرفه، وربما عرفت وتجاهلت، أنني عدت من هناك بعد أقل من أربع وعشرين ساعة لأتحدث عن "لبنان" على الهواء مباشرة مع "محمد سعد" في اليوم السابع، ثم قضيت يومين في عملي، وفي ظهور آخر على قناة "عين" أرادوه في موضوع عام فوجهت الحديث إلى عزاء في شهداء "قانا" وحضرت اليوم التالي مؤتمرا لإغاثة "لبنان" ثم نزلت أهرول تحت شمس الظهيرة لألحق بالحافلة المتجهة إلى الساحل الشمالي، وأقضي أقل من 24ساعة ثانية أعود بعدها إلى القاهرة لأواصل عملي وأنشطتي.
وهناك في الشاليه الذي أقمنا فيه كنت أتشاجر مع الأولاد، هم يريدون الكارتون أو أفلام، وأنا أريد "الجزيرة"، وأصبت بما أحذر الناس من عواقب التعرض الزائد لأخبار الحرب!! هذه هي الأجازة التي أرسلت تهاجمني عليها لأنني "متناقض" أدعو الناس للجهاد، وأتركه وأسافر للمصيف!!
وأندهش متعجبا عن هؤلاء الذين ينشغلون بي وبتلفيق حياة أخرى لي بتفاصيل يعتقدونها ثم يقررون أنها الحقائق التي أخفيها!!
وهي محض أساطير لا منطق فيها، ولا اتساق ولا أثر ولا رائحة ولا نصيب من الواقع، أو هم يلتقطون تفصيلة أو جزئية ثم يبنون عليها قصة أو قصص طويلة يكملونها من خيالهم، ويصلني طرف من هذه الأكاذيب/ القصص، وأستمتع بها!! كما استمتعت بالأجازة!!
ثم فعلا جاء دوري لأحصل على أجازة من عملي بالجامعة لمدة أسبوع قضيت أغلبه أمام شاشة الكمبيوتر أكتب وأحرر رسائل ومقترحات، وأدير ندوة، وأجري مكالمة مع هذا أو تلك أصرخ فيها بالجميع عن ماذا يمكن أو ينبغي أن نفعل!!
واكتشفت أن انقطاعي عن الجامعة أسوأ من ذهابي إليها، لأن الذهاب يعني أنني أكتب بانتظام، وأنا من شدة التعب متغلبا على أرق يلازمني منذ كتبت أشباح لبنان، وليتني كنت أستطيع أن أفعل أفضل أو أكثر!!
ربما يؤرقني أننا -أقصد الأغلبية- لم تلتقط معنى النصر أو تستشعر مذاقه، أو أفسدته عليهم الأفكار المسمومة، أو المعلومات الملغومة التي تنتشر في أوساط الناس للأسف الشديد، وهو الخبال الذي حذرنا الله منه، وهو قريب من الخبل "فيما يبدو!!
والخبال يكون من فعل الأعداء والمنافقين، والأخطر منه هو أننا نستمع له، ونترك له مكانا بيننا، ونتداول البهتان السياسي، ونمرر اللا عقل واللا منطق واللا مصلحة في الشأن العام كما يمرره "أصدقائي" في المجال الخاص عني وعن حياتي!!
إنه نمط حياة وتفكير، وعيش اليوم باليوم، وتركيبة دماغ ومجتمعات، وهي عندنا تحولت من حالة قال القرآن عنها: "...... مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.........." (التوبة:47)".
إلى ثقافة يمكن أن نسميها ثقافة "الخبال" وهو قريب من الخبل، وفي مصر نقول الخبلان، ولا أدري هل بينه وبين "الهبل" علاقة لفظية، بحيث يكون أحدهما لغة من الآخر أو تحريف له؟!
وربما يؤرقني أنني بسبب نعمة الله علي بالسفر، وبمشاهدة البشر والأماكن، والتجوال في أرض العزيز القهار صرت أرى أحيانا مالا يرى الناس سواء في جهة المشكلات، أو من جهة الحلول، وحين أتكلم لا أستطيع التفهيم غالبا، فأصاب بالإحباط، أو على الأقل أشعر بالقلق، ويهاجمني الأرق، ولا أنجو من اللوم، إضافة إلى ذلك لأنني أبدو غريبا، أو متناقضا، أو غير ذلك مما يأخذه علي المنشغلون بي في عملي، وفي أجازاتي!!
اقرأ أيضًا:
وحملوها.... فطارت في الهوا الإبل / على باب الله: أمة في حرب