سيتوقف التاريخ طويلا أمام هذا المشهد الفريد الذي كنا نطالعه وكأنه"عادي"، أو كان بعضنا يتألم منه أو يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه فيه، دون أن يدرك أو يستشعر حقيقة أنه يرى ويسمع سلسلة من المعجزات والخوارق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!! حرب من هذه؟! سؤال نحتاج إلى طرحه والإجابة عليه أو التفكير فيه!! هل هي حرب "حسن نصر الله" أم حرب "لبنان" أم حزب الله أم الأمة وهي كلها، جزء أو حلقة في حروبنا ضد إسرائيل، أو بالأحرى حروبها علينا؟!
كيف شعر البعض منا بالانفصال عما يجري، وكأن شيئا لا يعنيه!!
كيف أفلح الكيد إلى هذه الدرجة؟! كيف اختلطت الألوان والتفاصيل لدى بعضنا؟!
كيف نجحت الحرب النفسية، والتشويهات الإعلامية، وضخ الأكاذيب، والتلاعب بالعقول والمعلومات والأفكار؟! وكيف نجا آخرون منا من تلك الفتن؟ وددت لو أنني أملك كاميرا لاقطة، آلة تصوير ضخمة تستطيع أن تلتقط في إطار واحد مجمع صورة لهذه الأمة التي نحن جزء منها!!
هذه الأمة التي أشعر بالفخر أنني منتمٍ إليها، كما أشعر بالمسئولية، وستكون لقطة رائعة ومليئة بالمفارقات والزخم والغرائب والعجائب:
ستجد قوما منا يهتفون باسم الإسلام، ويرون نصرة حزب الله واجبا، وفرض عين، والتخاذل عن هذا خيانة عظمى تصل إلى الكفر!!
ومظاهرات التأييد له، واستنكار العدوان على لبنان خرجت في كل العالم!!
بينما آخرون يهتفون بالإسلام أيضا، ويرون في مذهب الحزب ومنتسبيه ما يقترب من الكفر!! وبالتالي فلا نصرة ولا حتى دعاء لهم بالنصر!! وكأننا نرى في الفهم والموقف نوعين من الإسلام ورؤيته!!
ستجد قوما لا ينامون أرقا، ومحاولة لفعل أي شيء، منهم من يجمع المساعدات العينية بالأطنان التي تملأ الطائرة تلو الطائرة، ومنهم من يجمع الأموال بالآلاف ليرسلها عبر الطريق الذي يطمئن إليه، وسترى آخرين يمصمصون على شفاههم ويقولون: لبنان بلد الفساد والدعارة والمخدرات، يستاهلوا اللي بيحصل لهم!!
وكأنه يمكن اختصار بلد في عاهراته ومواخيره!!
وكأن بقية أقطار المسلمين يعيش بها صحابة الرسول رضي الله عنهم فلا خمر، ولا انحرافات بشعة ظاهرة، وما خفي كان أعظم!! على أرضنا ينتحر المنطق، ويستقبل العقل ويهرب لينفذ بجلده!!
ستجد قوما يتساءلون بحرقة: ماذا نفعل؟ وكيف يمكن أن نساعد؟!
وآخرون يختبئون وراء عدم وضوح أو تبلور طرق أو برامج دعم المقاومة، فيكون هذا مبررا للقعود، وعدم فعل شيء البتة!! أو الاقتصار على المعتاد الذي لم يعد يكفي!!
ستجد جنودا كأنهم نزلوا من السماء، أو خرجوا من البحار، أو من باطن الأرض، رجالا مثل ندى الصباح، وشدة الرياح، ولا شغل لهم إلا الكفاح، مرغوا سمعة الجيش الإسرائيلي في أوحال الجنوب، ونالوا منه على مرأى ومسمع من العالم كله، وفشل هو في أن يحقق أي شيء من أهدافه، وهو الأعلى تدريبا وتسليحا وتجهيزا، وهو الأكثر عددا، والمدجج بأحدث مدرعات وأسلحة في العالم.. فإذا بها تتحول إلى خردة حديد، وأفران صهر تشتعل لتحرق من بداخلها، بدلا من أن تحميهم!!
وستجد آخرين عاجزين عميان، مخدرين، وبعضهم خصيان، لا يرون أنفسهم يصلحون لحمل السلاح، أو لبقية أنواع الجهاد مثل الرجال، أو حتى النساء، وقد رأينا كيف كانت المرأة اللبنانية في هذه الحرب صلبة، وعلى مستوى الحدث.
ستجد أمة قد تآكلت فيها المهارات والقدرات المدنية والتعبوية والتنظيمية بطول استبداد، أو اختراق الترف وسخره، أو كلاهما معاً فإذا أرادت أن تهب واقفة لم تستطع أن تلم أنحاءها، وإذا عزمت على المسير فشلت في ربط وتشغيل أشلاءها!!!
وستجد منا من صنع من فسيخه الشربات الذي نشربه الآن جميعا، أي أنه بإمكانيات متواضعة لا تقارن بالعدو استطاع أن يبني، وأن يصمد، وأن ينتصر، وأن يبادر ويناور.
ستجد منا الدراويش والبلهاء الذين يطلقون تصريحات، أو يتحفوننا بآراء شاذة أو مضحكة تتعجب من أي مكان في الأرض أو خارجها أتوابها!!
ستجد كلاما هو الهذر واللغو الذي يحكي عنه القرآن، وأحيانا يغرقني إن تحملت أن أستمع إليه أو أشاهد قائليه وأسمعهم.
وستجد خطابات أخرى متوازنة وعقلانية تمتلك من الرصانة وعدم المبالغة والحساسية تجاه الجميع، وحسن تقدير الظروف والأطراف، مما يستحق الدراسة والتعلم!!
ستجد إمكانات مقاومة وممانعة تذهلك كما أذهلت العالم، أو من يتابع ويفهم، وسترى مساحات تخلف يصل إلى القتل والتخريب، وحروب على المذهب والهوية، واستبداد، وركام تركته الدنيا وارتحلت، ونحن بعضنا يعض عليه بالنواجذ، ويجري وراءه مناشدا أن يبقى!!
ستجد في العالم كله من حولنا مؤيدين لحقوقنا يتظاهرون ويستنكرون، ونحن لا نكاد نعبأ بهم، ولا نلتفت إليهم، ونكاد ألا نرى إلا الآخرين ممن يناصبوننا العداء لتتأكد صورتنا أمام أنفسنا والدنيا كلها كضحايا يشتكون، بينما نحن مجرد "متقاعسين" عن الاستفادة من هذا التأييد وغيره من إمكانات يذخر بها الواقع.
وستجد كلاما كثيرا تسمعه وتقرأه عن الدين والإيمان، وابتغاء وجه الله واليوم الأخر، وإلى جواره عمل قليل مبعثر تلاحقه السلطات، وأفكار كثيرة للتحرر، وجهود واعدة للإنعتاق يحاصرها، الجهل والتخلف وغياب العقلانية!
وستجدنا نتداول أفكارا مسمومة، ومفاهيم ملغومة كافية لتحطيم حاضرنا وتدمير مستقبلنا لولا عناية الله ووعده بألا يهلك هذه الأمة بسنة عامة كما أهلك من قبلها!!
ستجدنا أمة يختلط فيها الجد بالهزل، والترف والسرف والقرف بالعزة والكرامة والشرف على نحو مربك وفريد!!
سنجد أشياء كثيرة قد تغيرت عن ذي قبل، فهل سيتغير فهمنا وإدراكنا، وتفاعلنا معها، وإدراكنا لها ولأنفسنا أم سنعود إلى سابق عهدنا في إدراك أنفسنا كعاجزين ومهزومين وفاشلين بلا أمل ولا أفق ولا شوكة ولا مستقبل!!
اليوم يبدأ سريان وقف إطلاق النار ليتوقف نزيف الدم حتى إشعار آخر -ربما- وتلتقط إسرائيل أنفاسها، وتلملم هيبتها المبعثرة، وتنفق وقتا وجهدا مضنيا في استعادة أساطيرها عن نفسها ووضعها بوصفها واحة الديمقراطية والتحضر في منطقة الشرق الأوسط!! وبوصفها صاحبة الجيش الذي لا يقهر!!
وستعمل جموع كثيرة من ملايين الصهاينة وأشياعهم، وستساعد الولايات المتحدة بما تملك، وتساهم أنظمتنا بما تستطيع، وستعمل أجهزة ودوائر الخيانة العربية، وجهود الكيد والعدوان في ميادين الإعلام والأفكار والسياسة والحرب النفسية والفنون لصناعة أكاذيب وأساطير جديدة، وهذا هو الشرق الأوسط الجديد كما يحلمون به، فهل لدينا نحن الشعوب العربية والإسلامية، ملتفين حول النصر الذي حصل، والنجاحات التي تحققت، والتضحيات التي قدمناها برنامج أو رؤية لصياغة تصورات وأوضاع أخرى غير التي يسعى لها هؤلاء؟ هذه بعض ملاحظات وتأملات وأسئلة المرحلة!!
اللهم ارحم شهداءنا، وأيقظ جهود أمتنا، وادحرْ كيد أعداءنا، وانصرنا يا عزيز..
اقرأ أيضًا:
على باب الله خدعوك فقالوا أجازة / على باب الله: أنا والجهاد وهواك