عندما تذكرت "صفوان بهلوان" وهو يطربنا بأغنية "عبد الوهاب": أنا والعذاب وهواك، وجدتني لا أتصور عنوانا لهذه المدونة غير ما وضعته لها!! فهي فعلا تتناول التفاعل والتشابك بيني والجهاد والهوى!!
كتبت في موضع آخر، ولا أذكر هل نشر كلامي هذا أم مازال في أوراقي الخاصة!! تكلمت عن اختصار معاني الجهاد، وهو منظومة حياة وتفكير، ونمط عيش وتناول ورؤية للدنيا وللبشر وللأشياء، ثم اختصارها في الرباط وحمل السلاح ضد الأعداء، وربما التفجيرات، والعمليات الاستشهادية، وأشكال محددة لا يملكها أغلبية الناس، وقد يرفضونها، أو يحلم بعضهم بها دون أن يستوعب أنها جزء من الجهاد، ومن معارك الأمة ضد أعدائها كل بوعيه وعمله، وتفكيره وحركته، وحتى ممارسته للعواطف والحب مع زوجته، أو تربيته لأولاده، أو تفضيله للأماكن والأنشطة والأكلات!
أتأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا"، ليكون هذا بعض التفسير لمشاعري العالية، وأمس كنت أتكلم هاتفيا مع "وائل خليل" وكان مندهشا من تألق أفكار وحوارات د. عزمي بشارة المفكر الفلسطيني، الذي نحبه معا، وهو المتألق دائما، ولكن وائل يراه أكثر تألقا هذه الأيام فقلت له: إنه الجهاد يا وائل، إنها مواجهة الموت التي تسقط كل التفاصيل السخيفة، وكل التفاهات الرخيصة، وكل الشبهات والأفكار والدعاوي المشبوهة. إنه الدم الذي تنبلج منه شموس الحقائق فتبدد عتمة الغموض والتردد والتلعثم.. إنه الجهاد.
وأعود إلى حيرتي: كيف تفهم أمتي معاني الجهاد وأدواره، وكيف تستعيد المفهوم بتكامله وشموله، وكيف ننفر خفافا وثقالا لنواجه أعداءنا في ميادين المعارك البرية كما في مساحات الإعلام والتأثير في مواقف الشعوب؟! كيف تفهم دور القلم والكاميرا، وأهمية الفكرة والمبادرة وإبداع الريشة، ومهمة الفنان كما المهندس؟!
كيف نستوعب مسألة أن الجهاد يبدأ من جهاد النفس والهوى، ويظل دائرا دون انقطاع في هذه المساحة الأساسية بالليل والنهار، سرا وعلانية، ثم تتأسس على أنقاض الهوى أعمدة البناء، فلا نجاح حقيقي ومستمر مع غلبة الهوى، ولا جهاد النفس يتوقف ولا ينتهي أو يفرغ!!
طوال الوقت يغالب الإنسان نفسه وتغالبه، يحاول ترويضها، وتحاول إغواءه، وتدور الحوارات متواصلة بين نوازع الخير والشر، وتفوز هذه، وقد تفوز تلك، ولا يخلو إنسان من هذا السجال!!
أعلن موقع عشرينات في بداية الحرب عن فتح باب التطوع لمساندة المقاومة، ونشروا نموذجا يعبئه الراغب في أن يضع نفسه تحت تصرف لبنان في محنته، وتلقوا الكثير من التوقيعات، واقترحت عليهم أن ينظموا اختبارا لهؤلاء الشباب، اختبارات لياقة بدنية ونفسية وعقلية، وكفاءة اجتماعية ومعرفية، ولنرى من منا يصلح بالفعل لتحمل أعباء الجهاد في ميادينه المختلفة!!
واقترحت على زميل لي أن نؤسس مركزا يقوم بعملية اختبار ومسح على أوسع نطاق ممكن نعرف من خلالها أين يقف شبابنا من الاستعداد في حالة اندلاع مواجهة في أي قطر عربي، ولنعرف كم سنجد من الجاهزين لخوض هذه المواجهات على الأرض، وليس بمجرد الكلام؟!
عندي فضول لأعرف كم شاب وكم فتاة لدينا ممن يستطيعون الدخول في معارك دبلوماسية شعبية، وجهود إعلامية شعبية لبناء رأي عام عربي وعالمي مناصر للمقاومة، ولحقوقنا المشروعة في فلسطين ولبنان والعراق، وغيرها؟!
كم شاب وكم فتاة يستطيعون الدخول في مناظرات ومواجهات بالرأي ضد الصهاينة وأشياعهم، أو ضد المتعصبين مذهبيا ممن يشقون الأمة إلى شيعة وسنة، أو الطائفيين ممن يساهمون في تقطيع أوصالنا إلى مسلمين ومسيحيين، أو إلى عرقيات في مصر أو الجزائر أو المغرب؟! كم شاب وكم فتاة قادرون على القيام بجهود مصالحة أهلية نحتاجها بشدة في بلدان كثيرة لتضميد الجروح الطبقية أو المذهبية أو العرقية أو الجهوية!!
كم شاب يستطيع أن يستخدم آلة التصوير ليلتق مشهدا مؤثرا، أو لديه القدرة على "المونتاج"، أو تركيب صور على موسيقى وإنتاج مقطوعة بالصوت والصورة تتضمن معلومات مع صور مع بعض الدراما... أو غير ذلك؟
كم منا يستطيع أن يخوض وينجز في هذه المسارات جميعا، أو غيرها في تربية الأطفال على القيم، أو استثمار الطاقات، أو جمع التبرعات أو تنسيق الجهود لننتصر أكثر وأكثر في مواجهتنا مع الأعداء؟!
أظهر الشهر المنصرم أن الجيوش العربية ليست جاهزة لشيء، وأن القرار السياسي المستكين والجبان بدعوى العقلانية وعدم التهور لا ينفصل غالبا عن أوضاع التدريب والتجهيز والتسليح لهذه الجيوش!!
إذن غالبا لدينا في جيوشنا موظفين يجلسون على مكاتب أكثر مما لدينا من مقاتلين جاهزين لإطلاق مدافع، أو قذائف صواريخ، أو الانقضاض بطائرات، أو الزحف في دبابات ومركبات!!
لم أسمع منذ وقت طويل عن مناورات قام بها الجيش المصري أو حتى أجزاء منه، وليس عندي معلومات، ولكن لدي خشية تتأكد بشواهد متواترة أن جيوشنا العربية ليست في أفضل حالاتها، وأنها فعلا غير جاهزة تماما أو أبدا للدخول مع إسرائيل في مواجهات جزئية أو شاملة!! وأرجو أن أكون مخطئا أو متجنيا!!
والحرب كما رأينا، وكما هي دائما، ليست سلاحا وجيوشا فقط، بل شبكات دعم لوجستي، وإمداد وتموين، وخطط، وجبهة داخلية تحتاج إلى نفسية ومعنويات لا أعتقد أنها السائدة في أوساط مجتمعاتنا!!
أنظر حولي باحثا عن نفسية أو ذهنية أو ثقافة الجهاد فلا أجد!! هل يمكن أن يجاهد أعدائه من لا يستطيع الصوم أو الامتناع أو الابتعاد عن نمط الاستهلاك والترف والإغراق في الماديات خيالا وفعلا، وتطلعات وممارسات!!
هل ستخوض المعركة تلك العقول الفارغة من تاريخ الصراع، وتلك الأفئدة الخاوية إلا من ركام الأغاني والمعاني والتفاصيل السخيفة، بل القاتلة للروح، والمخدرة للمروءة، والمعاني النبيلة، والقيم الإنسانية العليا في الوجدان وفي تقدير الناس ومعاييرهم السائدة!!
منذ بداية الحرب على"لبنان" أخوض جهادا من نوع عجيب مع أولادي، وأكتشف أنني لم أكن واضحا ومجتهدا بالشكل الكافي قبل الحرب فيما يتعلق بمعاني المواجهة، وأدوار المقاومة بالتالي!!
صحيح أنهم استسلموا متذمرين لرفضي أن نذهب معا إلى السينما، بعد أن أصررت على المزاج الحالي ليس مواتيا، وصحيح أن السؤال يتردد في البيت كل يوم: طيب.. ماذا يمكن أن نفعل من أجل لبنان في حربه؟! وصحيح أنني رفضت أن أشتري لهم وجبات جاهزة مفضلا عليها دائما طعام البيت والأسرة!!
وصحيح أن أحدا لم يعمل في مساحة الأطفال حتى الآن سواء على مستوى التوعية والتنبيه، ولكن برنامجا للتربية على معاني المواجهة والمقاومة والجهاد ينبغي حتما أن يكون موضع اهتمام بعضنا، لأن بناء الجهاد، وجهاد البناء لا ينبثق وقت المعركة إنما يتشكل قبلها، ويتفاعل أثناءها، ويستمر بعدها، لأن تماسك الصفوف بالداخل اللبناني مثلا لا يقل أهمية عن الصمود على جبهة النزال، والاشتباكات العسكرية! وتمتين النسيج الوطني، والبناء التقني، وإشاعة مفاهيم التقشف، وترويح مفاهيم وسياسات ادخار فعالة لبناء اقتصادي قوي في مصر مثلا لا ينفصل عن معارك الدبلوماسية الشعبية والحرب النفسية ومواجهة استكبار الإمبراطورية الأمريكية التي تبني تحالفاتها مع اليمين المتطرف، ومع متشددي الصهاينة، ومع الكنائس الموالية لإسرائيل، ومع الطابور الخامس من عملاء حضاريين أو مباشرين لهؤلاء أو أولئك يعيشون بيننا، ويشيعون الخذلان والتشويش.
معركة واحدة متشابكة وممتدة من داخل النفس، وفي كل بلد إلى جبهات القتال.. جهاد هنا وهناك لابد أن تتصل حلقاته المتناثرة، ونبني ما ينقصني من شبكاته المفتقدة حول المقاومة المنتصرة على الأرض وفي النفوس، من يسمع معي، ومن يهتف في الآفاق: حي على الجهاد.
اقرأ أيضًا:
على باب الله: أمة في حرب / على باب الله: مشروعان