كان مؤثرا جدا في الوعي المبكر ذاك الكتاب الذي أعجبني حتى قمت بتدريسه للعديد من الشباب -في حينه- وسعيت إلى طبعه ونشره على أوسع نطاق، وهو ما تم، ولله الحمد، منذ عدة سنوات، ويحمل الكتاب عنوان:
"الانتفاضة الفلسطينية.. دراسة في الإدراك والكرامة"..
(منشور في نهاية الثمانينات) وفيه يتألق أستاذي الدكتور عبد الوهاب المسيري، ويكتب بحبر القلب، ودم الروح، وتدفقات الفؤاد عن أبعاد غائبة عن أغلبيتنا، ولن أسترسل حتى لا أتورط في اختصار مالا يختصر!!
وكدارس لعلم النفس في إطار بقية العلوم التي تجتمع لمتخصص في الطب النفسي بدأت أهتم أكثر وأكثر بالإدراك، وهو إعطاء المعنى والتفسير، وبالتالي تحديد الموقف أو رد الفعل من المؤثرات التي يتعرض لها الإنسان، وهذا هو الإدراك في شكله البسيط فأنت تسمع فلانا يتكلم، وبالتالي تصدر عنه أصوات، كما تشاهد ألوانا وأشكالا، والإدراك هو الذي يمنح هذه الأصوات، وتلك الصور المعنى والمغزى، هذا مبدئيا وببساطة، إعطاء المعنى للمؤثرات، والعلامات وبالتالي الحكم عليها وتحديد الموقف منها.
وعشت مع الإدراك أرحل وأرتحل من منزل إلى منزل، ومن حادث إلى حادث، وأسعدني أن أشترك في بلورة تصورات أخرجها د. عبد الوهاب إلى حيز العلن والتداول في كتاباته عن النموذج المعرفي الإدراكي، وهو مبحث أساسي لكل من يريد أن يفهم كيف نفكر ونتصرف، بل ونعيش ونتعارك... الخ.
ورأيت كيف يرتفع بالبعض إدراكهم فيعانقوا السحاب، ويقتربوا من الله سبحانه في ملكوته، وفي مخاطبته للعالمين، فيكونون أكثر استيعابا للسنين وللمقاصد وللآيات والمعجزات!! وبناءا على الإدراك نحدد مواقفنا وقيمنا تجاه الدنيا والحياة والموت والبشر، تجاه ما سوف نقرر أنه ثمين، وما هو بخس، ما هو الغالي، وما هو الرخيص!! وقد ندفع الثمن باهظا نتيجة لقصور إدراكنا لعلامات وأشياء كانت أمامنا، وعجزنا عن فهمها!
ومازالت الحروب تدور في ميادين الإدراك، بل هي ربما تبدأ فعلا في العقول بالأفكار وبالمواقف والقرارات والتحيزات، الحروب تشتبك طوال الوقت مع الإدراك، وتبدو أحيانا صراعات بين إدراكات مختلفة أو متناقضة ومتصارعة!!
إسرائيل تتحدث الآن عن نصر!!
وتحديد النصر والهزيمة هو بالمقام الأول يختلف باختلاف زاوية النظر، ومعايير التقييم والتحليل والقياس، وكلها تحيزات معرفية سابقة على تطبيق أي منهاج للتحليل والنظر، ومؤثرة فيه. إذا نظرنا بمعيار الخسائر المادية والبشرية مثلا سنجد أن عدد الضحايا من الشهداء والجرحى على الجانب اللبناني أكبر، ومساحة التدمير والخراب في لبنان أوسع، ولكن هذه ليست كل الصورة!!
هناك خسائر اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية إسرائيلية قريبة وبعيدة المدى، ظاهرة وكافية، وهناك تداعيات على الجانبين تبدو مجهولة المآل، هناك تآكل ثقة الإسرائيليين في قيادتهم، وبالتالي تأثير ذلك على انسجام وتماسك الشعب حول السياسيين!
ويمكن أن أستمر هكذا بلا نهاية في شرح المنطق ونقيضه مرة مع النصر، وأخرى مع الهزيمة، ولا أحب أن أفعل هذا الآن، فقط أريد أن أتذكر أن الإدراك هنا هو مربط الفرس في لعبة "انتصرنا أم انهزمنا" الدائرة على الطرفين!! وبناءا على الإدراك ينبني الموقف والعمل، وتتدفق المشاعر السلبية.
فيما يخصني أعتقد دائما أن الأمور بالتطورات والمآلات، فما تحقق من إيجابيات يمكن استثماره أو سيتبدد!! وما تحقق من خسائر يمكن تعويضه أو سيتفاقم!!
إذن في أية معركة تكون العبرة بالمواصلة في استثمار رصيد الانتصارات، وعلاج نقاط القصور والثغرات، وبالتالي فإن الهزائم يمكن أن تتحول إلى انتصارات، والنصر يمكن أن يتبدد ما لم نحافظ عليه، ونفهم انعكاساته، ومنطق التغيير الذي جاء به أو ينبغي أن يترتب عليه.
والحرب النفسية التي أرجو أن نكون على وعي مبدئي بها هي بالأساس حرب في ميادين الوعي والإدراك، ثم بالتالي الدور والفعل والإنجاز. وما يروج بيننا من أفكار ملغومة ومسمومة من شأنه تشويه إدراكنا للواقع وللحقائق، وبالتالي إصابتنا بالبلبلة والتشويش، والنتيجة شل القدرة على الفعل، أو الفعل الخاطئ، وهذا ظاهر في تصرفات بعضنا وتخبطهم!!
مسألة أخرى تساهم في تشكيل الإدراك، وهي الموقف الإيماني والروحي فيما يخص ما سوى الماديات، وهذه مسألة تبدو غامضة أو ملتبسة عند الكثير من الغربيين مثلا!!
مفاهيم مثل الكرامة الجماعية، وأن الأراضي والعرض والاعتزاز بالمعتقد الديني وبالعائلة والشرف تبدو قادمة من عصر منقرض لدى البعض، بينما هي أهم من الحياة ذاتها عند آخرين!!
السؤال هو كيف يمكن فهم هذه الأبعاد وإدخالها في التحليل والتقييم والتنبؤ والاستثمار والتشغيل والتفعيل؟!
غيابها أو حتى احتقارها عند البعض يؤدي إلى فجوة إدراكية هائلة بينهم وبين الآخرين الذين يؤمنون بها ويعتقدون فيها وتساهم في تكوين وعيهم، وبالتالي تحديد مساراتهم!!
والنتيجة صدامات معلنة أو مكتومة، وأحيانا حروب قد تؤدي إلى تعديل الإدراكات أو لا تؤدي!! وعلاوة على هذا أعتقد أننا بصدد مسألة أخرى مهمة، وهي كيفية تحويل الإدراك بعد تبلوره إلى أوضاع على الأرض.
قيل مثلا أن الصمود اللبناني هو نصر لكل المستضعفين والأحرار في العالم، وهو فخر لكل من يواجه أمريكا وغطرستها في الدنيا بأسرها، وظهر هذا في الوفود الدولية التي وفدت إلى لبنان مؤيدة وداعمة، ومازالت تتدفق من أركان الدنيا الأربعة، وقرأت مطالبة من كاتب مصري مسيحي مؤخرا بالانضمام إلى حزب الله، وتوصية بأن يفتح عضويته أمام كل العرب، بل كل الأحرار في العالم ليصبحوا "حزب الله" وهو يقول:
"أن يفتح حزب الله أبوابه أمام غير المسلمين، حيث الله هنا هو إله الجميع، إله المسيحي والمسلم"، ويضيف: بهذا تسقط دعاوى المسيحيين المتعصبين الصهيونيين بأن حزب الله إسلامي فاشي، سيصبح حزبا قوميا بالمفهوم النصر اللاوي، حزبا يضم الذين يرغبون في تطهير بلادهم من اللصوص، وتحويلها من مغارة إلى مكان آمن للعيش.
وأرى أنه في إطار واسع ينحو إلى التجميع ولم الشمل، وتلافي النزاع الداخلي دارت كلمات السيد حسن نصر الله خلال أسابيع القصف، فكيف يمكن بلورة واقع على الأرض يعكس هذه الرؤى والإدراكات ويستثمرها، بدلا من شيوع مفاهيم تهدف إلى بناء إدراكات أخرى مضللة من مثل القول بأن حزب الله هو مجرد صنيعة إيرانية، أو أنه جزء من مشروع شيعي للسيطرة على المنطقة برعاية أمريكية!! والتناقض صارخ هنا!! وعندي فإن دحض هذه الأساطير والأكاذيب هو من واجبات الوقت ومعاركه وحروبه، ولن يكون إلا بإشاعة مفاهيم وإدراكات سليمة...
21/8/2006
اقرأ أيضًا:
على باب الله: مشروعان / على باب الله: عاجل من لبنان 27/ 8 / 2006