أحمد نظيف ما بين تضاد اللغة ونضوب الموهبة
طلعت علينا الصحيفة الحكومية الأولي في صدور صفحتها الأولي بصورة السيد نظيف خلال زيارته لورش السكة الحديد بالسبتية (الخميس 24 أغسطس 2006)، بدا بطوله وعرضه، بذلته ورابطة عنقه، شاربه وشيبه نظيفاً من الإحساس، شبيهاً ببهلوان في سيرك يطمئن الجمهور واللاعبين بـ 5% حوافز للعاملين وتحسين أحوالهم المالية. سمّاه أحد الكتاب (بأحمد نزيف) مطابقاً رنة نطق الاسم بنزيف القضبان ونزيف مصر الذي لا ينتهي مع دموع ثكلاها وأراملها. بدا نظيف كالسيمافور يتجاوزه السائق، وبدا كذلك مقفوشاً كفرامل القطار كما قال سائقة في (بركة السبع)؟!
لقد تجاوز السائق الزمن والحضارة الإنسانية والسيمافور، كما تجاوز السيد نظيف وسمعنا عن العطشجى الذي كان يعين بالإعدادية والآن بدبلوم صنايع، وعن احتياج السائقين للعمل في أماكن أخرى، مما يجعلهم منهكين متعبين مقاطعين لدورات التدريب، وقرأنا عن نظرة الذل والانكسار في عيون الناس ـكل الناس ـ وها هو حمدي الطحان يصرح بعد حريق قطار الصعيد بوصول اعتمادات مالية إلى هيئة السكك الحديدية، (لم تكن كافيه للتحديث) واعترافه بأن الحكومة متهمة بالتقصير الكامل في توفير الاعتمادات الأخرى، وأن اتفاقية تجديد الورش تمت منذ 3 سنوات على أن تتحملها الكويت(...) لكن الحكومة تقاعست عن التنفيذ بدعوى إعداد الأوراق اللازمة فضاعت علينا الصفقة (...الأهرام 25/8/2006).
كما تظهر صورة السيد نظيف مرة أخرى داخل نفس الصحيفة القومية، يطالعنا بطلعته المهيبة مؤكدا أنه أخذ 5 مليار من حصيلة بيع الشبكة الثالثة للمحمول و 3.5 مليار من مصادر وزارة التعاون الدولي (قروض ميسرة)، بالذمة هل هذه بلد؟! هل هذه حكومة تمسك بنوتة البقال وتدير الكوارث بأسلوب الحارة القذرة عالية الصوت خاوية الخزنة والمعدة.
مع كل كارثة كنت أكتب مؤكداً على أننا مجتمع يقوده الحدث Event driven society وحكومة لا ترى ولا تسمع ولا تخطط ولا تفهم ولا تدرك، تتشدق بالأقوال وتدير الأمور بأسلوب عشوائي عقيم. السيد نظيف المخ والإدارة والرؤية شاحب الموهبة، باهت لا يحمل أي ملامح، ربما معرفته هو و وزرائه بأن هذا الشعب المسكين لن يتطور ولن يثور ليس لأنه لا يمتلك (ثقافة المقاومة) فحسب؛ لكن لأنه لا يعرف (فن الحياة) فهو شعب مطارد ومسلوب الإرادة، متناقض الرؤى والطبقات، فهلوي، فنجري، تضحك عليه بكلمتين، عايز ياكل عيش، يسير على خط الإلهاء باستقامة؛ فيعمل 18ساعة في اليوم، يدخل جمعيات ويستدين من طوب الأرض ليغرق في دوامة التقسيط والدروس الخصوصية واللقمة المغموسة بالدم والعرق والتراب. أين هو السيد نظيف العملاق البكر، وهو ينتشي مشيداً بأداء حكومته الرشيدة في تعاملها مع جثث الضحايا وفي صرفها للتعويضات.
نظيف ملك رد الفعل بامتياز، عقيم الوجدان، مزعج لأقصى حدّ، وهو واجهة صادقة لنظام مترهل مفلس نزع عنه برقع الحياء و ورقة التوت، فوقف عارياً متسخاً بشعاً خلف تمثال (الملك رمسيس الثاني) في رحلته من ميدان رمسيس إلى صحراء الجيزة، فنسمع معه حوارات زاهي حواس البطل المنتصر، بكلماته المفعمة بالأمل والحب وازدهار المستقبل، وفاروق حسنى الوزير الفنان الفذ وهو يتغنى بعبقريته وقدرته على معرفة الأفضل للسيد رمسيس، وعن المستقبل المشرق الذي ينتظر مصر في ظل حكمه الغالي، ألم يلحظ أحد تلك المذيعة الناعمة وهي تسأل سائق (الزحافة) التي جرّت رمسيس: (كَلْت يا عم غرباوي) فأجابها وهو الرجل القليل الكلام (لأ عشان مانامش) عم غرباوي ساق عربة رمسيس الإلكترونية على مدى عشر ساعات، وبضع مئات من الشعب الغلبان يرفعون الأعلام ويغنون ويرقصون كالمذبوحين من الألم.
كم من المصريين لا ينامون لأنهم لا يتعشون. وكم من الناس في برّك يا مصر يدركون حجم المأساة، وكم منا فعلاً ينتظر في خوف شديد أو بلادة منقطعة النظير، كارثة جديدة، وفي نفس الوقت يتمنى زوال الغمة بعد زوال النعمة.
في رحلة تضاد اللغة بين نظيف ونزيف بين قطار الصعيد وقطاري قليوب، بين ممدوح حمزة وممدوح إسماعيل وبين الحزن المزمن، والاكتئاب المشق في كل أوجه الحياة والممات، في عدم القدرة على ممارسة الحياة، إن المسألة قد أصبحت لدى ملايين المصريين (أكل وشرب وشغل ونوم... قليل من هذا وكثير من ذاك) أو العكس.
واقرأ أيضاً:
حوار مع الدكتور خليـل فاضـل / لا للاختــزال........لا للاحتــلال / الأب الحاضر الغائب المُغيَّب