تذكرنا الأقدار أن معركتنا مع إسرائيل لا تنفصل عن معاركنا مع الفساد والاستبداد والإهمال، وإخوانهم مع الأعداء والقتلة!!
حادث بشع يتصادم فيه قطاران نتيجة لإهمال تعودنا عليه للأسف الشديد حتى تواترت الكوارث على الطرقات، وحتى قال أحدهم متهكما ومتسائلا: هل هناك علاقة بين مصر ومصر.. ع، ولعلها تعود تلك الدعوة التقليدية التي كانت تطلقها الأمهات أقصد الدعاء بأن "يكفيك الله شر الطريق" ويبدو أننا أيضا سنضيف التحذير: "خلي بالك" أوTAKE CARE ، كما في الغرب!!
حدثتني نفسي أثناء قصف "لبنان" أن البلدان العربية قسمان:
الأول تقصفه إسرائيل بالمدافع والطائرات، وتضربه بالبوارج والدبابات، والقسم الثاني "مضروب لوحده"، مضروب ومدمر من تحت، من فوق الأرض، وليس من السماء، كما يحدث في القصف بالسلاح!!
مصر مضروبة ومدمرة بفعل السوس الذي ينخر فيها منذ عقود، وكانوا قد قالوا لنا بعد كامب ديفيد أن الأمور ستتحسن، وانطلقت شعارات مثل "الرخاء"، ومن بعد نصر أكتوبر كان "الانفتاح"، وكان الرئيس السادات متخصصا في إطلاق مثل هذه الحملات بواقع شعار لكل سنة!!
ولم أرَ رخاءً، وإنما سارت الأحوال من سيء إلى أسوأ، وبدلا من أن تكون مصر هي المضروبة والمقاتلة كما كانت بالسلاح، صارت المضروبة بالسلام، أو في ظل مناخ وثقافة قيل أنها "السلام" ولم تكن سوى أوهام، وحالة من الترهل والفشل والسبهللة والميوعة الإدارية والاجتماعية.
إنها "ثقافة السلام" كما حصلت عندنا، وهي في أصلها أفكار وبرامج تتضمن مهارات وأشياء من شأنها تطوير قدرات وقوى التفكير والإبداع والحوار والتفاوض لتحل القوى اللينة محل القوى الصلبة- العسكرية في إدارة الصراعات!! ولكن ما حصل عندنا باسم السلام كان مهزلة!!
ثقافة السلام عندنا أصبحت استسلاما لتصورات الأعداء عنا وعن العالم، واستسلاما للكسل، وإدمان الفشل، وصولا إلى مستوى محاربة أي نجاح يظهر لنصبح كلنا في مستنقع الهبوط سواء!! والكل ينظر إلى هذا المشهد، ويلوم الآخرين، ونتعامل معه وكأنه قدر حتمي!!
وصرنا كما نرى -مهزومين في معاركنا اليومية ضد الانحطاط والتخلف، وضد استشراء قيم فاسدة، وضد قيادات بليدة متكلسة لا ترحم، بل وتحاول ألا تترك رحمة الله تنزل على عباده!! باختصار فقدنا دور المحارب الشريف، والمناضل النبيل، وصرنا عبيدا للشهوات وللدنيا وزخارفها، ونسينا الجهاد، وروح الجهاد، وثقافة الجهاد، وحياة الجهاد كما عبرت أنا عنها في موضع سابق!!
وصرنا نعتبر الهزيمة شيئا طبيعيا!! وبدلا من البناء استثمارا للسلام شاع الهدم مع الاستسلام، وذبحنا النسور والصقور ليصير الكل "حمام"!! خلعنا أظافر وأنياب الأسود، وسكتنا عن التنكيل بالبشر حتى صار الانتهاك والظلم والعدوان... عادي!!
وفي غمرة هذا كان لابد أن يحدث أمور خطيرة وفارقة:
الأول: تفريغ الإسلام من مضمونه الحقيقي بوصفه دين جهاد واستعلاء بالله على الدنيا وأتباعها ومتاعها، وظهر نوع من الإسلام المترف برخاوته، وبقائمة أولوياته المضطربة المشوهة فتشوهت كل حياتنا تحت ضربات ومعاول قوى الهدم والتدمير الداخلية، ولم يكن لدينا نوع متاعة أو مقاومة لأن الدين نفسه تم مسخه!!
هل أحتاج إلى مقارنة بين صحيح الرسالة التي نزلت من عند الله، وما يجري بيننا بوصفه ممارسة الدين، أو الإلتزام به؟! ومن المسخ ما حصل من فضل الجهاد حين قيل أنه "الفريضة الغائبة"، وهذا صواب، ولكن أي جهاد؟ وكيف؟ ومتى؟ وبمن؟ وضد من؟! أو ضد ماذا؟!
وصار لدينا تدريجيا ما سماه البعض الإسلام الأمريكاني بأنواعه وأشكاله، وهو أليف مع الأعداء، وقاسي على الأصدقاء والإخوان، ذليل في موالاة الكافرين، ويتطاول حين يجيء الدور على أبناء الوطن، أو أهل العشيرة، وشركاء الأرض والمصير!!
وظهر نوع أو تنويعة أخرى تحتفظ من نفس التشوه بالانغلاق الفكري، والتضارب المنهجي، وعقلية القشورة، لكنها تحمل السلاح تارة ضد الحكام المستبدين، ثم ضد أمريكان وكأن معركتنا ضد الاستبداد وراعيته تحسمها بندقية تقتل شخصا، أو سيارة مفخخة تنفجر في مدخل سفارة، أو فندق سياحي!! وفي مقابل هذا غاب الجهاد بمفهومه الشامل المتكامل الذي لا يرى ولا يمارس انفصالا بين جهاد النفس، وجهاد الفساد والاستبداد - عدو الداخل- وبين قتال عدو الخارج، أي الاحتلال والتوسع والجبروت الأمريكي والصهيوني.
غاب الجهاد بوصفه استعلاءا على الترف والرخاوة والغرق في المادية والاستهلاك كنمط حياة، ومسلك يومي، وانقسمت الأمة إلى مجاهدين على طريقة اضرب واجري، وهؤلاء يعيشون في الجبال!! ومحيط من الملايين يعيش بين زخرفة العيش، ورخاوة الرفاهية، وبين عضة الافتقار، والاحتياج، وإمراض وتداعيات الإفقار والعوز!!
ولا ينقصنا في هذا المشهد إخلاصا، والله أعلم بالنوايا، ولكن ينعدم أو يكاد في تفكيرنا ومسلكنا هذا منطق الصواب والسداد والرشاد!! وترتفع أصوات الزيف، وتروج مخدرات الوعي.
وفي هذه البيئة أصبحت مهمة التدمير والنهب والقهر سهلة، لأن الأمة تم تغييبها عن الفعل، وعن الجهاد بعد تشويه وتقسيم أدواره على النحو الذي شرحته!!
تم إخراج الأمة من ساحات الجهاد مرتين: مرة حين احتكرته الحكومات عبر جيوشها ثم لم تحارب، ومرة حين اختصرته بعض الحركات إلى ممارسة محدودة، ثم احتكرت هذا الذي اختصرته ليكون حكرا عليها تستقل بممارسته ورسم خططه وتحديد خرائطه نيابة عن الأمة!! دونهم تفويض أو مشورة، وبغض النظر عن نواحي الخلل والانهيار، وتكاليف البناء. هذه هي الحالة الراهنة للدمار في مصر وغيرها من الأقطار المضروبة دون سلاح!!
ووسط هذه اللوحة السريالية المعتمة برزت المقاومة الفلسطينية واللبنانية بروح مختلفة، "وبوصلة" سليمة، وخريطة أولويات، وقائمة انجازات مشجعة، والتحدي هو الالتفاف حول هذه المقاومة، واستلام روحها، واستثمار ومضتها، والقبس من نورها وطاقتها، جهادا في كل ميدان، وتحررا من كل طغيان وعدوان، وكسرا لكل قيد، وتجاوزا للتشوهات والعقبات التي صارت تحول بيننا وبين إصلاح الدنيا بالدين. ومضة تلوح تعيد الإسلام في حياتنا إلى مكانته ورسالته وزخمه الأصيل تدوس في طريقها على ما لحق بالشرع والرسالة من تحريف وتزوير وتزييف وتشويه، وسوء فهم وتأويل تقول لمن يدرك ويفهم أنه لا حرية إلا بالإسلام، ولا تنوير، ولا ديمقراطية، ولا عقلانية، ولا تحرير، ولا مقاومة إلا بالإسلام.
ومضة تلوح فتكشف لنا الطريق الذي كاد يضيع منا، طريق عودتنا إلى الإسلام الحقيقي الذي رفعنا وحررنا أول مرة، ولعله يفعل ثانية ونفعل.
اقرأ أيضًا:
على باب الله: عاجل من لبنان 28/8/2006/ على باب الله: عاجل من لبنان 29، 30 /8/ 2006