انت التقارير المصورة على الفضائيات العربية كلها تنعي عميد الرواية "نجيب محفوظ"، ولم أكن أتصور وقتها أنني سأجد نفسي بعد أيام أدخل إلي عالمه عبر"ثرثرة فوق النيل"، وكنت حين سمعت بخبر الوفاة قلت لنفسي: الآن أقرأ محفوظ، فمازلت أؤمن بما تعلمته منذ الصغر حول الإقتداء بمن مات لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة!!
وسمعت أن العميد قبيل وفاته رفض عرضا بالعلاج في أمريكا, وسواء صحت الرواية أم لا، فإنه كان بحياته كلها وحكمته، وروحه العميقة الوادعة المتأملة قدوة وعلما، ومعلما، وكان هو ذاته الرواية الأهم في مجموعته المدهشة!!
"ثرثرة فوق النيل" إذن!! قرأت الرواية, وشاهدت الفيلم, وقرب نهايته يذهب"أنيس زكي" في زيارة للجبهة فيشاهد الموت والدمار الذي خلفته القنابل والطائرات الإسرائيلية، ويظل يهتف بنفسه: "ده شيء فظيع"، وينقلب حاله أو يعتدل بالأحرى، بعد أن رأي أطلال المباني، وأثار أقدام الوحش المسمى بالموت!!
ويفيق"أنيس" من غفوته وغفلته التي طالت بصحبة الحشيش، ويعود ليواجه شلة العوامة بالجريمة التي هربوا من الاعتراف بها، وهم شركاء فيها، وينتهي الفيلم وهو يمشي بين الناس داعيا لليقظة!!
سافرت إلي لبنان عن طريق سوريا، وكان تحصيل معقد في طائرة متجهة إلي دمشق أهون قليلا من مقعد في طائرة متجهة إلى بيروت وأيامها كانت تهبط إجباريا في عمان أولا!!
كانت دقات قلبي تتسارع كلما اقتربنا من النقطة الحدودية، ها هي نقطة "المصنع" الشهيرة التي تردد اسمها في الأخبار تباعا، والتي سمعنا عن قصفها أو الطريق المؤدية إليها، ورأيت المصنع نفسه مقصوفا هو الآخر، ضمن عدة مصانع صغيرة ومتوسطة قصفتها الطائرات الإسرائيلية لأغراض غير واضحة، وكذلك مررنا بالسيارة فوق الحفر التي تم ردمها بعد أن كانت بعمق أكثر من عشرين مترا -إثر القصف- تعيق السير من وإلى لبنان.
بدءا من دخول لبنان عبر الحدود السورية وأنا تصاحبني فكرة تتحرك بداخلي ذهنا وشعورا، وتتقلب وتتحور، إنه سؤال الحياة والموت، ثنائية التناقض والتكامل، وجوانب العلاقة كلها!! الحياة والموت...
مسرورا عبر شوارع دمشق التي زرتها مرتين من قبل، وأحس عبق رائحتها، ورغم الروتين المرهق في النقطة الحدودية التي يدهشك اختلاف الجانب اللبناني فيها عن الجانب السوري كثيرا، وهو تلخيص –وإن كان مملا-، للاختلاف بين سورية ولبنان بشكل عام، لا تمل من الانتظار فهو أحيانا نوع تحضير نفسي قبل الانتقال الذي كان اقترابا بحواس متيقظة!!
حركة الدخول والخروج صاخبة ليلا ونهارا، زحام هنا وهناك، وأشعر أنني أقترب من الموت، أو من حيث مر الموت بأقدامه الثقيلة، وقنابله الذكية، وصواريخه الجبانة.. ولكن السماء الصافية، والنجوم اللامعة فيها وصوت الكون، وهو يتنفس مستقبلا منتصف الليل... ودخولنا بيروت بعد طول عناء في طرق مزدحمة من الحدود إليها، مشهد الجسور المحطمة، وحفر الطرق سيصير الأكثر حضورا على كل طريق، وقبل أو فوق أو تحت كل جسر، هذه الصور تتابعت متلاحقة ومتداخلة ليختفي الموت وراء غلالتها!!
السائق يختار من نفسه أن يريني الضاحية الجنوبية في بيروت حيث تجولت في الماضي كثيرا، حين زرت أصدقاء، ودور نشر، ومقر قناة "المنار" وحيث قابلت السيد "حسن نصر الله" على هامش ندوة دولية للحركات المناهضة للحرب، وللعولمة النيوليبرالية، ويومها سألته: سماحة السيد يعجبني كلامك، ولكنني أحب أن أسمع منك كيف ستحافظون على التوازن بين واقع قوة حزبكم المتنامية، وهو حركة سياسية اجتماعية، ولها جيش، في دولة مثل لبنان هي هشة بكل المقاييس؟! كيف ستدعمون عمليا تقوية الدولة، وكيف لا يكون ذلك خصما من نموكم؟؟
ويومها لم يجب "نصر الله" قائلا: في مرة قادمة.. ربما... لأن الوقت اليوم قد طال!! وأحسب أنني مازلت أحمل نفس الهواجس والأسئلة، واستجد غيرها كثيرا!!!
دخلنا الضاحية يلفها ظلام دامس، وأثار التحطيم والهدم والقصف الثقيل واضحة، وأنقاض البيوت والمباني تكاد تجعل الحركة مستحيلة في شوارع بعينها رغم أن الإعمار وإخلاء الأنقاض في الضاحية هو أسرع ما يمكن، بحيث أصبحت الأوضاع أفضل، وتتحسن كل ساعة بسبب نشاط حركة الإخلاء والإعمار.
كانت الضاحية في ظلامها تشبه امرأة مكلومة قابعة في صمت مهيب، وعباءة سوداء، صوت سكونها، وكلام سكوتها أبلغ من كل حديث!! هنا قصفت الطائرات بعض النقاط أكثر من عشر مرات خلال شهر!!
نتجه إلى الفندق، ونمر على شوارع بيروت، ومن الضاحية إلى وسط البلد حيث الملاهي والمراقص مزدحمة!! والوقت تخطى منتصف الليل بساعات!! شباب وفتيات في العشرينات، صخب وملابس مكشوفة، أو بالأحرى أجساد مغطاة بأقل قدر ممكن من القماش غالي الثمن، حياة الليل في بيروت عادت كما كانت!! وبسرعة..
بدا الشباب يقاومون الموت بالحياة على طريقتهم، ومنظرهم أدهشني وأزعجني قليلا، ولكنه أعطاني نوعا من الإحساس بأن هناك أشياء لم تتغير، ولم تتأثر بالحرب، وفي هذا نوع طمأنينة وشعور بالأمان، ولو امتزج ببعض سخط!!
وسط بيروت كما هو، أقصد كما تركته قبل أسابيع قليلة من بدء الحرب، وبدأت أتنفس بعمق لأول مرة منذ فترة، فها هي "ست الدنيا" بهية كما عهدتها، تطوي جراحها، وتستعيد عافيتها، وتتجاوز أحزانها، وأتذكر الوصف المتكرر الذي سمعته لأهل لبنان "يحبون الحياة" وعلى طول الطرق يلفت نظرك إعلانات يغلب عليها اللون الأحمر تحمل صورا وشعارات تتعلق بالنصر الذي حققه حزب الله، إنها لافتات دعائية أنفق عليها الحزب، ومكتوبة باللغات: العربية والإنجليزية والفرنسية، وموجودة على كل ناصية، وفي كل الأحياء، وهي لا تقل في فخامتها وأناقتها عن إعلانات شركات الأزياء، أو المطاعم أو حتى دعاية الحفلات وغيرها، وتتجاور مع إعلانات اللانجيري النسائي، في تنوع يراه البعض تناقضا، ولكن هذا هو لبنان!!
تعشيت في مطعمي المفضل، ومن حسن الطالع أنه كان إلى جوار الفندق التي حجزت لنا فيه "جمعية قطر الخيرية" الممول الرئيسي أو الوصيد لرحلتي مع زملاء آخرين، حيث ذهبنا بغرض تدريب العاملين في دائرة الاحتكاك بالمتضررين من صدمة الحرب الأخيرة، سواء من النازحين أو أقارب الضحايا أو الجرحى، أو من فقدوا بيتا أو عزيزا عليهم، أو حتى مجرد أن عاشوا مهددين بالموت تحت القصف، والهجوم الإسرائيلي، لمدة تزيد على الشهر، وكنت أعرف أن التدريب سيكون يوميا، وجاء من نصيبي أنه خارج بيروت طوال الأسبوع الذي قضيته في لبنان... المهم تعشيت ونمت بعمق!!
ويتبع >>>>>: على باب الله: لبنان.. رحلة الحياة2
اقرأ أيضًا:
على باب الله: أقول لهم نصرٌ.. فيقولون شيعة / على باب الله: أثينا.. لأول مرة -1