على باب الله: لبنان رحلة الحياة1
رحلة إلى الجنوب
زميلتي التي تعشينا أنا وهي وآخرون وجدتها تطرق الباب في الصباح الباكر لتخبرني بأن الموعد قد حان للسفر إلى حيث تدريب اليوم الأول لي، فتحت عيوني بصعوبة شديدة، والباب بصعوبة أكبر، وقلت لها: أكاد لا أراك... حلال عليك تدريب اليوم بالكامل، أما أنا فعائد إلى النوم ثانية لبعض الوقت!!
بعد عدة ساعات كنت في سيارة سريعة أتجه إلى الجنوب اللبناني حيث دارت أشرس المعارك في "بنت جبيل"، و"عيترون" و"مارون الراس"، وهي الأسماء التي كونت مثلث البطولة والتضحية كما أسماه "حسن نصر الله" عندما سمعت منه هذه الكلمات لأماكن كنت لا أعرفها، واليوم أتجه إليها مباشرة بعد أيام من وقف إطلاق النار.
سألت "محمد" الشاب الذي رافقني قائدا للسيارة، وأنا أرى، وكما سمعت أن بعض أهل الجنوب لم يتركوا بيوتهم أصلا رغم شراسة القصف، وضراوة الاستهداف الإسرائيلي لحياتهم!! سألته: لماذا لا يغادرون؟!
قال محمد: نعم... بعضهم بقي ولم ينزح، إما حبا في الصمود، أو لأنه اقتنع أن النازحين منسحبين، وهم أيضا مستهدفون،........... في "مروحين" مثلا استجاب الأهالي للمنشورات والتحذيرات الإسرائيلية، وخرجوا في قوافل نازحين، فإذا بالصهاينة يخرجون عليهم بالطائرات ويقصفون الطريق من أمامهم، ومن خلفهم، ثم يقصفونهم، وهم عزل فارين من الموت في منازلهم ليموتوا في العراء، على الطريق!!
مما جعل البعض يقول: أموت في بيتي أفضل!! سألت محمدا: ألم يسلم جسر من القصف فضحك، وقال: خرجت عندنا نكات كثيرة على قصف الجسور. منها أن الجيش الإسرائيلي مازال يبحث عن جسر لم يقصفه، وهو "جسر اللوزية"... اسم أغنية لفيروز!!
وعن صديق ينصح صديقه بخلع "الكوبري" الذي ركبه في أسنانه لأن إسرائيل ستقصفه هو الآخر!!
وعن أي وزير في الحكومة اللبنانية ورد اسمه منفردا على لوائح المطلوبين حيا أو ميتا، وكل جرمه أن اسمه "سمير الجسر"!!
مررنا على مرفأ بحري صغير قال محمد أنهم قصفوه بثمانية عشر غارة، رغم أنه تحطم من أول صاروخ!!
وقال مردفا: كل مرة كانوا يحرقوننا، ها المرة نحنا كمان حرقناهم!!
أشاهد لافتات دعاية لحفل كان مقررا يوم 15 يوليو في بيروت، وكانت "شيرين"، و"عاصي حلاني"، ولم يحصل الحفل طبعا، وبقيت الإعلانات!! لكن اللافتات الأكثر انتشارا تحمل صور الشهداء، وشعارات العزاء أو التهنئة بالاستشهاد:
- لبنان الجميل هزم إسرائيل.
- بالوحدة انتصرنا.
- الحمد لله الذي أحيانا في زمن نصر الله.
- سنرفع جسورنا على أكتافنا لتعبروا.
- قاومنا.. صمدنا.. صبرنا.. انتصرنا.
أعلام لبنان، وحزب الله، صور نصر الله، ونبيه بري، والإمام موسى الصدر، والخميني، وخامنئي بدرجة أقل.
"هنا الجنوب" إذن، حيث استهدفت إسرائيل البشر والشجر والحجر, ضربت الطرقات كلها لتعزل القرى، وتعميق حركته الناس, وأبطال المقاومة، ولتسهيل التوغل والاحتلال والاجتياح، وكانت صدمتهم حين صمدت كل قرية حاولوا معها, ودحرتهم فتراجعوا المرة تلو الأخرى حتى الانسحاب الأخير!
نقترب من "قانا" لنقرأ اللافتة:"من قانا إلى فلسطين نموت أعزاء، أو نعيش منتصرين"، كنا طوال الوقت نسير في طرق يجهلها مرافقي، وكان يعتذر قائلا: هذه ليست الدروب المعروفة التي اعتدت المرور والسفر عليها,كل المعروف تم ضربه!!
ووسط كل هذا ستجد لافتة إعلانية تتكرر عن حفل من المفترض أنه جرى في "صور" مساء السابع والعشرين من يوليو أي في منتصف شهر الحرب تماما، "نانسي عجرم" كانت هناك!! يحبون الحياة!! ولم تكن "قانا" هي المجزرة الوحيدة في هذه الحرب، فقد جرت مجازر عدة في "صديقين"، وغيرها!!
والضحايا من الأطفال والمدنيين دائما، وفي استطلاع تلفيزيوني إسرائيلي قالت إحداهن: أنا أوافق تماما على قتل الأطفال لأنهم سيقتلوننا عندما يكبرون، وسيقتلون أولادنا وأحفادنا فمن حقنا قتلهم الآن!! وحتى الشاحنات على الطرق، وهي لم تكن تحمل غير خضروات أو بضائع معيشة يومية أو حتى نازحين مدنيين اعتبرتهم إسرائيل ضمن واجبة القصف،ثم كانت تقول ببساطة غنها شاحنات عسكري!!
ولم لا.. طالما تحمل بشرا، والبشر قتلة أو مشاريع قتلة، يصبح البشر سلاحا، وشاحنة الركاب، أو باص السفر مثل الدبابة سواءا بسواء!... طبقا للمنطق الصهيوني!!
طوال سيرنا كنت أرى المسافة بين الحياة والموت تنعدم أحيانا فيصبحان وجهين لعملة واحدة، أو تتباعد لأري الموت متواريا، والحياة ذاخرة بالحركة، وإرادة البقاء والاستمرار متدفقة! وكنا نقترب رويدا رويدا من محطتنا الرئيسية "بنت جبيل". وربما لا يعرف كثيرون لماذا كان التركيز الإسرائيلي على هذه البلدة أكثر من غيرها!!
سألت محمد: لماذا بنت جبيل؟!
قال:لأنها عاصمة التحرير كما أعلنها "نصر الله" مع الانسحاب الإسرائيلي الكامل عام2000 ، واحتضنت حينذاك احتفالا ضخما جعل لها قيمة رمزية هائلة عند الطرفين, ومن هنا حاولت القوات الإسرائيلية تحطيمها واحتلالها، ودفعت باللواء المسمى"جولاني"، وهو من نخبة الجيش الصهيوني، وباءت كل محاولات الصهاينة في احتياج "بنت جبيل"ناهيك عن احتلالها بفشل ذريع، حتى أن فرقة "51"من فرق لواء"جولاني"، وهي الفرقة الأرقى والأعلى تدريبا ومهارة قد أبيدت عن آخرها!!
وحكايات صمود "بنت جبيل" البطولي الخارق لكل المقاييس تسمعها من هنا، وحين طلبت أن أرى بعض دبابات "الميركافا" التي دمرها المقاتلون المجاهدون قيل لي: لقد حطمتها إسرائيل قبل أن تنسحب حتى لا تبقى شاهدة على خيبتهم من ناحية، وحتى لا تتركها غنيمة لمن يفكك، ويفحص، ويدرس.
من القصص هناك أنه في بلدة "تله مسعود" على الأقل، رأى المقاتلون جنودا من المارينز الأمريكي يقاتلون بدءا من الأسبوع الثالث للحرب محاولة منهم لدعم الصهاينة في تراجعهم ويأسهم، وقيل لي أيضا أن أولمرت قد تأخر في إعلان وقف إطلاق النار لمدة يومين بعد أن طلب من قياداته تحديدا أن "بنت جبيل" ليفاوض عليها، ولذلك زادت خسائر العدو في اليومين الأخيرين، وفشلوا أيضا!!
عندما تكون هناك على الأرض فتسمع وترى، وتصعد مثلما صعدت إلي جبل"مارون الرأس" وتتوغل حتى ترى أن المحمول قد انتقل من الشبكة اللبنانية إلي نطاق تغطية الشبكة الإسرائيلية، وعندما تري أرض فلسطين الحبيبة على مرمى حجر، خضراء مزدهية صامتة منتظرة، ومهيبة.
عندما تسير على الأرض فترى أنقاض القصف الوحشي للبلدة بالصواريخ والطائرات والمدافع، وتتفحص مواضع أقدامك حتى لا تدوس على قنبلة عنقودية أو لغم أو ترتطم بصاروخ لم ينفجر مثلما كان المكان ممتلئا!!
عندما يقال لك: كفى لا تتوغل أكثر لأن الصهاينة يختبئون ومعهم قناصة في بيوت وحباني في"مارون الرأس"، فلا تستطيع إلا أن يجذبك الحنين، وتنتصر غواية المغامرة والاقتراب من فلسطين الحبيبة، غير عابئ بما يمكن أن يحدث, وتشعر عندئذ أنك لست سوى واحد من هؤلاء الذين ماتوا شهداء – إذا قدر الله لك ذلك-وتهون الحياة، للحظات نادرة في حياة أي إنسان!!
حين تكون وسط الموت تماما يسقط عنك كل خوفك، وترتقي روحك لتعاني السحاب، وتصافح الملائكة، ووسط هذا وذاك يصبح للحياة طعم آخر، لأنك في الحالين ستعيش: شهيدا إذا رحلت،أو شاهدت إذا بقيت أعتقد أن هذه كانت بعض الذين صمدوا في "بنت جبيل" وغيرها ممن صنعوا لنا نصرا لا نعرف قيمته حتى الآن، ولا نستثمره بالتالي كما ينبغي!!
نزلت من"مارون الرأس" لأستكمل جولتي في "بنت جبيل" أشم رائحة التين,واقطف من ثماره الناضجة، ليصبح المكان والزمان جزاءا من تكويني البيولوجي, ولم أشم رائحة تين، ولم أذق له طعما بهذا الجمال والجلال من قبل!! وقطفت زيتونة بأوراقها واحتفظت بها، وجمعت شظايا صاروخ، وعدت به، وقطفت زهرة صغيرة دسستها وسط أوراقي للذكرى، ولا أحسبني سأنسي هذه المشاهد والروائح والمشاعر!!
ملحمة الصمود في الجنوب لم تكن عسكرية فقط, وزيارتي لمستشفي الشهيد"صلاح غندور"على مداخل "بنت جبيل" أتاحت لي فرصة مقابلة "جورج جالوي" البرلماني البريطاني المعارفي, والمثير للجدل، وكان يزور نفس المستشفي, وأتاحت الزيارة لي أن التقي بشركاء الصمود والنصر من زملائي الأطباء الذين عملوا في ظروف قاسية للغاية، ومع ذلك حققوا نجاحات مهنية لا تعد ولا تحصى.
هناك شكوى عامة في"الجنوب" من عدم وصول القدر الكافي من المساعدات إليهم، ويدور كلام أقل، ولكنه متواتر عن تميز مناطقي، وطائفي بالتالي، في وصول المساعدات سرعة وكيفا إلي الجنوب المنكوب، وهذا مسائل تستدعي تحقيقا وتقصي على الأقل من الذين عملوا لأيام وساعات طويلة في جميع مساعدات ربما لم تصل إلي المناطق التي أستهدف المتبرعون أن تصل إليها!!
الكهرباء والمياه غائبة عن"بنت جبيل"، وما حولها، كما هي غائبة عن "الخيام" وغيرها من المناطق التي استهدفها القصف الإسرائيلي بتركيز، وصحيح أن جهود الأعمار التي يقودها"حزب الله" في الجنوب عبر البلديات التي يحظي فيها بأغلبية مطلقة، صحيح أن هذه الجهود تدور سريعة تسابق الزمن، ولكن هذا يحتاج إلي دعم أيضا من الدولة اللبنانية، ومن أصحاب المساعدات دولا أو منظمات أو حتى أفراد للتأكد أن المال والمواد تذهب إلي المكان الذي يستحق، ولا عيب في أن يتم تدقيق هذا بأسلوب أو آخر!!
غادرنا "بنت جبيل" بعد أن رأيت الدمار قد طال المدارس كما البيوت، وأبراج الكهرباء كما الجسور والطرق، واللافتات هي نفس اللافتات، وإن كان فوق الدمار كتب الأهالي: "هذا هو الشرق الأوسط الجديد"، ورسم البعض نجمة إسرائيل السداسية، وكتبوا: من هنا مرت إسرائيل "المتحضرة"!!
في خروجنا من "بنت جبيل" كانت أفواج السيارات تعود إلى بيروت وغيرها، حيث يأتي سكان الجنوب لزيارة منازلهم، ويقضون اليوم هناك، ويعودون مع الغروب إلى حيث لجئوا حتى يصبح الجنوب ممكنا للسكن!! ففي إحصائية أولية للدمار وجدوا أن حوالي 15% من مباني "بنت جبيل" يصلح للترميم، والباقي مدمر أو شبه مدمر بحيث لا يصلح معه ترميم!!
وعندما مرت بنا مركبة تابعة لقوات الأمم المتحدة قال محمد: هل تعلم أن رجال الأمم المتحدة يحتمون بالأهالي، وسألته عن النقطة الخاصة بهذه القوات، والتي قصفتها إسرائيل فقتلت أربعة على الأقل، فرد: هذه القوات ضعيفة جدا، وتسليحها ضعيف، ولا تستطيع حماية نفسها، وأي عاقل ينبغي أن يتساءل: لو ظلت بحالتها هذه، فما قيمتها؟! وحتما ستترك إسرائيل تمر وقت أية أزمة!! ولو تمت تقويتها على الأرض فمن ستردع بقوتها هذه؟! إسرائيل؟!
كنت قد قرأت عن جمال الجنوب طبيعة ومنازلا، وهو ما رأيته بنفسي، وإن كنت قد شاهدته مدمرا حزينا، ولكنه بالوقت ذاته شامخة في كبرياء، وحين كنت أتجول مع عائلة جنوبية وسط أطلال الفيلا الفخمة المحطمة التي تكلفت ملايين، هزني المشهد، ولكن هزني أكثر أنهم كانوا أبعد ما يكونون عن الحسرة أو السخط. ملامحهم وكلماتهم، وحتى ضحكاتهم وحكاياتهم، ورغم أنهم لم يقولوا الشائع هنا: فدا السيد حسن، وشباب المقاومة!!
واضح أنهم من الطبقة الوسطى التي عمل بعض أبنائها في الخليج، وعادوا ليعمروا بيتا في بلدتهم، ولما سقط تحت القصف لم يسقطوهم، كان لابد إذن للجنوب، وهؤلاء ساكنوه، أن يفعل بالصهاينة ما فعل، وما خفي كان أعظم.
ويتبع >>>>>: على باب الله: لبنان.. رحلة الحياة3
اقرأ أيضًا:
على باب الله: أقول لهم نصرٌ.. فيقولون شيعة / على باب الله: أثينا.. لأول مرة -1