على باب الله: لبنان.. رحلة الحياة2
العودة إلى بيروت
في نفس الليلة كان السيد "حسن نصر الله" يدلي بحواره التليفزيوني إلى قناة الجديد "New T.V. "، ولم يكن صعبا أن ترى وتسمع كل لبنان تتابع هذا الحوار، عبر المذياع في السيارات، وعبر كل شاشة في دكان أو منزل، أشكال وألوان وأزياء من البشر، كل الفسيفساء اللبناني كان يصغي للرجل، وهو يجيب بهدوء -رغم انفعاله- على محاورته الهادئة الملحة، والناس تصغي صامتة وواثقة في صدقه وشفافيته، واللبنانيون أصلا شعب مسيس إلى حد كبير، وزاد هذا في فترة الحرب، وحتى الآن كما قالت لي مخرجة في قناة فضائية شهيرة، ونحن نقطع الطريق إلى "بيروت" في يوم آخر، قالت: كل لبنان اليوم يحكي بالسياسة، حتى أنا لم أكن أعرف فيها، أو أفهم كثيرا، الآن أصبحت أقرأ وأتابع وأهتم، ولي رأي وموقف، وهذه من حسنات الحرب.. هكذا قالت.
تدفق كلام السيد "نصر الله"، وهو لم يكذب ولم يبالغ، لأن كل جهود الإغاثة والإعمار، ومبالغ التعويض، وتحركات المواساة، وإعادة البناء، كلها تجري على الأرض حتى يهيأ لزائر لبنان أنه قد دخل إلى ورشة عمل بطول البلد وعرضه، تعمل طوال الأربع وعشرين ساعة!!
الكل يعمل ويتحرك منذ أول لحظة بعد وقف إطلاق النار، وهكذا وبهذا ستجد أن الحياة تهزم الموت دائما في لبنان. "وحزب الله" لا يعرف رجاله النوم، كوادره المهنية والمدنية تصل الليل بالنهار لترد عمليا على كل الإشاعات والخرافات ومحاولات التشويه، والحروب الإعلامية، وألاعيب المنافسة السياسية، وصحيح أن الكل يتكلم ويطلق التصريحات، بينما الحزب يعمل لتثبيت مصداقيته عند الناس، صحيح أن منافسيه في موقف لا يحسدون عليه، ولكنه أيضا يبدو في وسط ألغام كثيرة، وملفات متشعبة، وحسابات دقيقة للغاية، وانتهزت الفرصة لأقول لصديقي المهندس عضو مجلس النقابة العامة لمهندسي لبنان، قلت له: كان الله في عونكم، وواجب على كل مخلص مساعدتكم، ماذا يمكن أن يقدم لكم الداعمون؟!
رد مبتسما: نستطيع تدبير حالنا، فقط أن يكفوا الأذى عنا في الداخل والخارج، هذا أقصى طموحنا!!
كبرياء الصامدين المنتصرين، وطبيعة اللبناني الذي تهمه صورته فرديا وجماعيا، والعلاقات الغنية، والاتصالات الواسعة لكل طائفة في لبنان تجعل من الشكوى أو طلب المساعدة لغة نادرة في الأحاديث المتداولة على كافة المستويات هناك.
صورة قد يراها البعض مسكونة بثقة زائدة في النفس، أو الاستغناء المؤدب، وربما أيضا بعض الاحتياط باليأس بدلا من خيبات الأمل، كما قال كاتب لبناني شهير منذ سنوات طويلة، واحتفظت بها في ذاكرتي لأفهم جانبا من التركيب اللبناني.. ربما!!
نفس الروح وجدناها في حوار مع مسئولي وزارة التربية، أقصد الترحيب الراقي، مع الاستغناء المؤدب، مع الرغبة في التواصل ضمن آخرين هرعوا لأداء مهام إغاثية تشبه المهمة التي قدمنا من أجلها، رغم أن ما نقدمه يبدو متميزا من وجهة نظر المسئول الذي التقينا به في الوزارة، على الأقل!!
الانفتاح اللبناني على الخلق والبلدان، والدنيا بأسرها ظاهرة ملفتة، سيقول قائل: طبيعي بحكم التنوع الطائفي، وبالتالي الثقافي!! وفريق ثاني سيقول: أغلب سكان البلد يعيشون حول العالم أصلا!! وسيقول آخرون: مفهوم في حال ضعف الدولة، ونشاط المؤسسات الأهلية القائمة على التكوينات الطائفية أيضا، وفي إطارها. ولكن المسألة تتجاوز هذا!!
فمن يمر في شوارع "لبنان" سيجد مثلا أعلاما لدول أوربية، وجنوب أمريكية، وربما أفريقية، هذه الأعلام مرفوعة على البيوت في بيروت وغيرها، ووجدتها في الجنوب أيضا، وهو أمر ملفت ومدهش ويدعو للتساؤل: لماذا يرفع بيت في حارة من حارات "بنت جبيل" علم إيطاليا، أو ألمانيا أو البرازيل، وعندما سألت في مرة سابقة علمت أن من يشجع فريق كرة قدم في كأس العالم يرفع علم دولته!! والسياحة في لبنان أغلبها عبارة عن أهل البلد المغتربين الذين يعودون لقضاء عطلة الصيف في وطنهم، وهؤلاء عادوا غالبا بعد وقف النار، لينقذوا، ولو جزئيا، موسم السياحة هذا الصيف، بعدما رحل أغلب الخليجيين إلى عمان والقاهرة ودمشق. أقول هذا، وقد رأيت "بيروت" عامرة كعادتها، وإن كان بكثافة أقل، تمويل إعادة العافية للاقتصاد اللبناني سيتكفل به أهل البلد أنفسهم.
في طريقي إلى زيارة عائلة صديقة في الضاحية سألت الابن، وهو مهندس معماري على وشك التخرج من الجامعة الأمريكية: لماذا لا يحصل نوع من إعادة الانتشار الطائفي فيما يخص التوزيع الديمغرافي، مثلا لماذا لا يقدم آخرون من غير الشيعة لسكنى الضاحية، بينما يسكن الشيعة في كل بيروت؟!
بهدوء مفرط وثقة ووعي أجابني: بعد ما حصل مستحيل أن يحدث ما تقول، فمن ناحية سيخاف غير الشيعة من سكنى منطقة مستهدفة، كما رأوا بأعينهم، ومن الجهة الأخرى سيتمسك الشيعة أكثر بما ضحوا من أجله بيوتهم، ويعتبرونه جزءا من ملحمة صمودهم وانتصارهم، وأردف: لاحظ أن أسعار الأراضي كانت هي الدافع الأهم للتوزيع الطائفي الديمغرافي في بيروت، أي أن كثيرا من الشيعة لن يكون لديهم الإمكانات المادية أصلا للانتقال إلى خارج الضاحية!!
وفي منزل العائلة سمعت المزيد من الحكايات، سمعت عن الأم التي كان ابنها ضمن المجاهدين واتصل بها في أواخر أيام القتال، وقال لها: وقف إطلاق النار قد أوشك، وأنا لم أمت شهيدا كما أحلم، ألم أتوسل إليك كثيرا أن تطلبي لي الشهادة من الله سبحانه وتعالى، وقد خذلتني في حرب التحرير السابقة، وتريدين الشيء نفسه في هذه الحرب، هل ترين أنني غير جديرة بالشهادة؟! أو أنني أقل ممن نالوها؟! وتحرك قلب الأم الذي كان معلقا وحائرا فكيف تدعو الله بهكذا دعاء؟!
غالبت مشاعرها، واستجابت لرغبة فلذة كبدها ليصعد شهيدا في اليوم التالي، كما أراد!!
إذا سألت الناس مباشرة عن مشاعرهم ومشاعر المحيطين بهم ستتلقى جوابا بحسب الشخص الذي تسأله، انتماؤه السياسي أو الطائفي، وكذلك موقعه ومصالحه، وهذا طبيعي!!
الأغلبية من الناس العاديين سيقولون أنهم فقدوا أشياء يعرفون ثمنها مقابل حصولهم على أشياء أخرى لا تقدر بثمن!! هذه الإجابة سمعتها من "محمد" مرافقي في رحلة الجنوب، ومن آخرين،ومسألة الانتصار على إسرائيل بالصمود أمامها، وعدم انكسار الإرادة، ومسألة الإعمار السريع والتعويضات الكبيرة التي يدفعها حزب الله، وكذلك الدولة، كل هذا يكمل المشهد المركب الذي يعيشه لبنان واللبنانيون، ولكنهم أيضا كعادتهم لا يتوقفون عن الجدل والمناظرة، والنقد المفتوح لكل شيء، ولكل أحد، ولا أحد عندهم فوق المساءلة، أو حتى التهكم والسخرية والتنكيت، مازالت هذه هي المعادلة اللبنانية لم تتغير، وإن استعصت على فهم البعض!! وهذه من نقاط التميز اللبناني النادر في المحيط الذي حوله!!
اللبناني حريص على كسب الجميع -ما أمكن- وهو ماهر في رسم صورته، والترويج لنفسه ولأفكاره، ولكل ما يهمه الترويج له، وهو دبلوماسي بالفطرة، وناعم في غير ضعف، وذكي اجتماعيا وسياسيا، ولا فارق في النوع هنا بين عضو حزب الله أو الكتائب أو رجل أعمال صغير أو كبير، فقط فروق في اللون والدرجة. نجاح لبنان المستمر والمتصاعد، وهو البلد الصغير محدود الموارد الطبيعية، يستفز كثيرين ممن نسميهم في مصر "أعداء النجاح" وقد قيل أثناء الحرب أنه يستفز إسرائيل أيضا.
لبنان في تنوعه واحترامه لهذا التنوع، في تقديسه للحرية والتعددية، في رفضه للانغلاق والتعصب السياسي أو الفكري أو حتى الطائفي أو المذهبي، في نجاحه محتضنا لتجارب فضائية تتعايش رغم تناقضها، وكيانات سياسية تتحاور مع اختلافها، لبنان يتحدى، ومن يطلب رأسه كثيرون.. وهم جميعا يريدونه ميتا،، وهو يستعصي فيزيدهم غيظا وحنقا وتآمرا وعداوة.
ويتبع >>>>>: على باب الله: لبنان.. رحلة الحياة4
اقرأ أيضًا:
على باب الله: أقول لهم نصرٌ.. فيقولون شيعة / على باب الله: أثينا.. لأول مرة-1