على باب الله: لبنان.. رحلة الحياة3
قبل الرحيل؛ رحلة إلى الجنوب
توالت بعد ذلك الأيام.. ذهبت للتدريب على المساندة النفسية أمام حضور متنوع من المخيمات الفلسطينية تارة، ومن مناطق لبنانية تارة أخرى، ولفت أنظارنا هذا الثبات والاعتزاز الذي يبدو ظاهرا في سلوك الجميع.
في "ثرثرة فوق النيل" يقول أحدهم: من كثرة الأشياء التي نخاف منها، لم نعد نخشى شيئا قط! ومصادر الخوف في لبنان كثيرة، وأهل لبنان يبدون غير عابئين، وكأنهم يكادون يتكيفون مع الشعور الدائم بالتهديد والخوف، وإن كنت وسط هذا يمكن أن تسمع أنينا مكتوما من الذين تعاملوا مع الأشلاء والدماء، من الذين صدمت مشاهد الحرب والقصف مشاعرهم الإنسانية، أو هددت وجودهم الآدمي، ولم يجدوا بأسا من أن يقولوا: آه! وقليل ما هم!
يقتضي استيعابنا لفكرة أن التعبير عن الحزن أو الألم ليس ضعفا أو نقصا مخلا، بالرجولة أو بالإيمان، أن ننضج معرفيا وشعوريا، وأحسب أن أمامنا وقتا نحتاجه وجهدا صار حتما أن نبذله لنحقق هذا النضج فندرك أنفسنا أفضل، وندير أمورنا أحكم وأنجح!
لاحت أيضا من حسنات هذه الحرب أنها قاربت بين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان –عددهم يقترب من المليون، وأوضاعهم صعبة للغاية- وبين شيعة لبنان، وكشفت لي رحلتي هذه عن صفحة مجهولة للغالبية العظمى من أهلنا العرب والمسلمين، وبخاصة الشباب!
سمعت عن حرب المخيمات التي دارت في منتصف الثمانينيات بين ميليشيا حركة أمل، وبين أنصار منظمة فتح، بل وكافة سكان المخيمات، ووقع فيها قتلى بأعداد كبيرة!
وقرأت مؤخرا في تحليل كتبه شخص سعودي أن هذا الاقتتال كان في إطار حرب طائفية بين الشيعة والسنة! والذي أغفله هذا الباحث أو تغافل عنه، وربما يجهله! هو ما سمعته هناك -من الفلسطينيين أنفسهم- أن موقف حزب الله في تلك الحرب كان ضد موقف حركة أمل، رغم اتفاقهما في المذهب! حتى أن حزب الله ساهم في استدعاء قيادة إيرانية كبيرة، في حينه، وهكذا تلازم شيخان: إيراني شيعي، وفلسطيني سني أقاما في المخيمات إقامة دائمة حتى حقنت الدماء! ثم يدور الزمان ليأتي من يكذب ويروج البهتان بأن حرب المخيمات كانت محض معركة مذهبية، ألا لعنة الله على الجهل، وعلى المتآمرين!
هذه المرة اختلفت الصورة تماما، في المخيمات، أنصار حماس يشكلون كتلة لا بأس بها من العناصر الناشطة هناك، وحزب الله هو صاحب التمثيل الأعلى في أواسط الشيعة اللبنانيين حاليا، على حساب حركة أمل، وعلى خلفية تقارب حماس وحزب الله في الأفكار والأهداف، والأيدلوجية الإسلامية، فإن التعاون والانسجام كان هو السائد، وهكذا قوبل النازحون من الجنوب "الشيعي" مقابلة أخوية حميمة من سكان المخيمات، حتى نشأت أكثر من قصة حب ومشاريع ارتباط بالزواج بين فتيات جنوبيات نزحن مع أسرهن، وشبان فلسطينيين من المخيمات!
بداية عملية جيدة يمكن البناء عليها لتصحيح الأوضاع الطائفية المتوترة في لبنان، بل وفي المنطقة العربية كلها، ولعل الفلسطينيون يلعبون دورا في هذا التحريك الإيجابي من خلال وجودهم وانتشارهم في أكثر من قطر عربي!
ولا أزيد على ما قاله قبلي كثيرون عن أهمية معالجة الملف المذهبي بسرعة وعمق وفعالية تتجاوز الخفة المعتادة السابقة في معالجته، وتسابق الزمن لأن سيناريو الاقتتال الطائفي مرشح ضمن مخططات "الفوضى الخلاقة".. وتفريغ الصمود الفلسطيني، والنصر اللبناني من مضمونه!
استثمار النصر الذي حصل هو مهمة الجميع، والنصر أكبر من حزب الله وأكبر من لبنان، هو نصر أكبر من صانعيه، ويحتاج لإدراك عميق لأبعاده، وآفاق تطوير العائدات منه، لا التعثر والتلعثم في ملفات مثل الطائفية! في ملف الطائفية تحديدا يمكن أن تلعب مصر دورا أساسيا عبر الأزهر الذي يحظى بمصداقية ووزن معتبرين، أدعو الله أن يأمر سيدنا إسرافيل فينفخ الروح في أزهرنا ليمارس دورا يطمح الجميع إليه وينتظرونه.
خصصت جزءا من وقتي وحكاياتي في لبنان أروي لهم عن حركة التأييد الشعبي الجارف الحاصلة في مصر تعاطفا مع المقاومة ودعما لصمود أهلنا هناك، وهناك قصور واضح في نقل حقيقة هذه الصورة الضخمة لهذا الدعم والتأييد، مما يجعله مفهوما أن يسأل أكثر من لبناني قابلناهم: أين مصر والمصريون؟؟ حدثتهم عن عشرات الألوف من الشبان والفتيات ممن نشطوا في جمع التبرعات المالية والعينية، وإقامة الحفلات الفنية والأمسيات الثقافية، وعروض الفن التشكيلي، وغيرها من أشكال التعبير والتضامن، حتى الأطفال كان لهم دور وحركة، لكن أغلب الذي حصل هنا لم يصلهم هناك!
أخذت في حقيبتي بعض النماذج من المطبوعات والملصقات والمواد المتنوعة لأريهم كيف كنا وما نزال معهم بقلوبنا وجهودنا، لكن هذا لا يكفي، وأخشى أن ننشغل عنهم كعادتنا بمفردات حياتنا من ياميش ومسلسلات رمضان، والدوري العام، والثانوية العامة!
ويتبع >>>>>: على باب الله: لبنان.. رحلة الحياة5
اقرأ أيضًا:
على باب الله: أقول لهم نصرٌ.. فيقولون شيعة / على باب الله: أثينا.. لأول مرة -1