كلمة البابا التي أثارت الزوابع جديدة بالنظر لأنها تفتح ملفات كثيرة تحتاج إلي تأمل ونظر ونقاش!!
تناول البابا مسألة العلاقة بين العقل والإيمان، وجمع ما بين الجذور الإغريقية والمسيحية في تقدير العقل وعلاقته بالإيمان، بينما أنكر على الإسلام نفس العلاقة، ونسب إليه عبر استشهاده بمناظرة قديمة أنه يسعى إلي نشر رسالته بالعنف والسيف مما يتناقض بداهة مع منطق الإيمان، ومنطق العقل!!
كلمة البابا بترجمات متعددة ومتقاربة صارت منشورة ومتداولة على الإنترنت، وعلى صفحات جرائد ومجلات عديدة.
ومن ناحية (الشكل) فإن كلمة مثل هذه يمكن أن تصبح غطاءا ذهبيا يمر من تحته فيض من العداء والتمييز ضد المسلمين في أوربا وغيرها، وكذلك فإن الحروب التي يواجهنا فيها طرف أمريكي أو صهيوني يمكن أن تستبشر بمثل هذه المقولات لأنها عبرها يمكن أن تكسب مصداقية أعلى، وجماهيرية أوسع!!
ومن شأن هذه التصريحات استفزاز واستنفار الأطراف المختلفة داخل المنطقة التي نعيش بها باتجاه المزيد من الصدام والتفتيت على أساس ديني أو مذهبي أو عرفي، ومن شأنها نسف التاريخ السابق من عقود للحوار بين أهل الأديان، والتي تداخل فيها الفاتيكان منزو مطلع الستينيات، وانتعشت في حقبة البابا السابق!!
وردود الأفعال يمكن أن تتخطى كل الحدود المعقولة والمقبولة ما لم ترتفع أصوات راشدة وسط السوق الواسعة التي تدخلها منظمات وتجمعات، وحتى دول وأنظمة ترى في مثل هذه الأحداث فرصة لإثبات ولائها للدين، وهي من طرف آخر محض أنظمة استبدادية فاسدة وبوليسية قاهرة!!
ومن حيث الشكل أيضا فإن اختيار مناظرة جرت زمن الحروب الصليبية أو حروب الفرنجة كما أسمتها كتب تاريخنا القديمة، مثل هذا الاختيار يوحي بأننا نعيش في حقبة مشابهة، وهذا خطير جدا!! خطير لأنه ينقل حالة صراع سياسي موجود فعلا، ويمكن تسويتها سواءً بالسلاح أو بالسياسة، والوصول فيها إلي حلول وسط وتنازلات، بينما حين ينتقل الصراع إلى الفضاء الديني فإن الحلول والتسويات والتنازلات تصبح احتمالاتها أضعف بكثير!!
وممكن رؤية التصريحات بوصفها خدمة للإدارة الأمريكية لإنقاذ بعض ماء الوجه في مواجهة الفشل المتكرر والمتراكم للخطة الأمريكية في التعامل بما أسمته "الحرب ضد الإرهاب"، محاولة لإنقاذ سياسات فاشلة باعتراف أغلبية أمريكية حالية، وبدلا من فتح الطريق لحساب المخطئين، ومن خانوا مصالح الأمة الأمريكية، تلوذ الإدارة الأمريكية، وها هو البابا يتبعها، بمصطلحات "صراع الحضارات" فتكسب وقتا, وتعمي عن حقائق وخرائط الصراع!!
بدلا من محاسبة بوش وأعوانه بوصفهم مجرمي حرب, ولصوص في عصابات للسيطرة على موارد العراق وغيرها من بلداننا يسارعون بتقديم أنفسهم كمدافعين عن الحرية تارة، أو الديمقراطية والتنوير، والبطاقة الرابحة أن يروجوا لأنفسهم بوصفهم حماة الصليب، أو العقلانية المسيحية، أو غير ذلك من القيم الدينية هنالك في مواجهة البرابرة- الذين هم نحن- هنا!!!
والتصريحات قد تحمل محاولة للتقارب والتزلف للإدارة الأمريكية والكنيسة الأمريكية البروتستانتية الناشطة بشكل مقلق في سحب البساط من تحت أقدام الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية وغيرها!!
هي محاولة للاصطياد في الماء العكر، وانتهاز فرصة حروب الإدارة الأمريكية لضخ الدماء في العقيدة الكاثوليكية التي يتزايد انفضاض الناس عنها، فتكون استعادة الروح لها عبر حشد الأتباع ضد هذا العدو المزعوم، والتهديد الوهمي، الشيء الذي تروج له أبواق كثيرة معاديه للإسلام والمسلمين، وتركب الموجة وتدفعها أكثر اتجاهات صهيونية ويمينية مسيحية متعصبة، تعمل منذ سنوات على تدمير العلاقات والجسور بين العرب وأوربا لتجفيف منابع التأييد الأوربي خاصة، والغربي عامة للقضايا العادلة مثل فلسطين والعراق ولبنان.. والبقية معروفة!
غطاء ديني للمشروع الاستعماري الصهيو -أمريكي، واستثمار للمناخ المحتقن ضد الإسلام والمسلمين في حل مشكلات داخلية في عقيدة تتآكل شعبيتها وترطيب خلافات ومنافسات مع البروتستانت وغيرهم، والسعي إلى تحالفات مع الإمبراطورية الأمريكية، ونحن ندفع الفاتورة، والبابا يحاول دخول المزايدة، وسوق المقامرة والأرباح بثقله، ليقبض المقابل: دورا وعلاقات، ومحاولة حل مشكلات، والتغطية على إحباطات!!
وسيرة (هذا البابا) ومسيرته متسقة مع تصريحاته ومواقفه، فهو "شخص لديه ميل للانغلاق في مذهب واحد يعتبره الحقيقة النهائية التي لا يمكن تجاوزها" على حد قول باحث فرنسي حاوره.
ولدى هذا البابا شعور مستمر بالتهديد الذي تواجهه الكاثوليكية، فمنذ حركات التمرد والرفض التي اندلعت في أوربا عام 1968، وهو يخشى على كنيسته من الاتجاهات الحداثية، وهو الذي تصدى لأحد تلامذته اللامعين، أفكاره مهدت الطريق أمام "لاهوت التحرير"، وهي حركة كاثوليكية دينية ذات طابع اجتماعي تنويري وتقدمي منحاز للفقراء والمستضعفين والبشر المحرومين من الفرص والخدمات، وكان هذا البابا صارما في مواجهة هذه الأفكار وأصحابها وصولا إلى محاكمة بعض مؤلفاتهم باعتبارها خطرا!!
وهو متشدد تجاه عمل المرأة الكنسي حيث يراه "دون فائدة" وموقفه من بقية مذاهب المسيحية صارم إلي حد العداء، وقد أصدر وثيقة هامة في عام2000 قال فيها: إن الكاثوليكية هي الطريق الوحيد للخلاص. وفي الأول من أبريل عام2005 تحدث نفس البابا أمام ممثلين مرموقين من 45 دولة قائلا: إن الكنيسة الكاثوليكية يهددها الآن عدوان: الخطر الإسلامي، والنسبية وهو يقصد بالنسبية التسامح مع بقية العقائد المسيحية الأخرى!! وهو قد قابل الإيطالية أوريانا فلاتشي التي تهجمت على الإسلام والمسلمين أكثر من مرة!!
هذا هو البابا الذي يجمع بين السلطة الدينية الروحية، والسلطة الدنيوية الأرضية كرئيس للدولة اللاهوتية الوحيدة في عصرنا، فهو بابا وملك، وطبعا فهو فوق المساءلة والمحاسبة، لأنه نائب المسيح، الرب، وهو بالتالي لا ينطبق عن الهوى، ولا يخطئ فيعتذر!! هذا هو البابا الذي يتهم الإسلام بالانغلاق واللاعقلانية!!
25/09/2006
ويتبع >>>>>: على باب الله: البابا ... والذي أسأنا فهمه(2)
اقرأ أيضًا:
على باب الله أثينا..لأول مرة -2/ على باب الله نعمة رمضان30/9/2006