على باب الله: البابا... والذي أسأنا فهمه(1)
والناظر في موضوعات كلمته سيجد خلطا متعمدا بين مستويات ثلاث: أصل الرسالة، وتاريخ الخبرة، وواقع الممارسة الحالي.
فهو يتهم رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنها تحمل أشياء شريرة ولا إنسانية مستندا في ذلك إلى رأي الإمبراطور البيزنطي، ثم ينتقل من هذا إلى شرح كيف أن نشر الدين عن طريق العنف هو شيء غير عقلاني وغير روحاني ويتطرق إلى منزلة الكلمة والمنطق في المسيحية مع مقارنة سلبية بالإسلام في نفس المساحة، وينعطف في إشارة سريعة إلى العلاقة بين العبادة والبعد الأخلاقي في شخص المسيح، ويقفز إلى العالم المعاصر ليخلص إلى تحديد ما يصلح وما لا يصلح من اتجاهات للدخول في حوار الثقافات!!
كلماته تؤكد تاريخيا أن الحوار قديم وممتد، والاشتباك كان مستمرا، وكل الأطراف استخدمت الحرب للدفاع أو للهجوم في إطار صراع على السيطرة، لكن الطرف الغربي هو الذي يختار دائما إعطاء غطاء ديني للقتل والغزو، وإطفاء طابع القداسة على حملات سرقة الموارد، واحتلال الأراضي!!
وخلال رحلته نفسها التي أدلى فيها بهذه الأفكار، يقول في مواضع آخر: "إن الرب الذي يأمر بنشر الدين بقوة السلاح، والذي يمنع الفكر الحر، ويعتبر التحول عن الدين ردة، والذي يضم كل مدركات العالم وآماله في حروف كتابه المنزل، لا يساوي إلا نفسه"!!!
(وعلى خليفة ما طرحه من مفارقة بين الإسلام والمسيحية فيما يخص العلاقة بين الإيمان والعقل يرى أنه يوجد صدع لا يمكن رأبه بينهما)
(لأن الاختلاف هو متجذر، ليس في الممارسات، ولكن في أصل تصور كل دين لله سبحانه وصورته ومقتضيات الإيمان به) والكلام بين القوسين هو لي.
ولا أحسب أن كلام البابا سيكون مناسبة لنقاش نحتاجه نحن المسلمين للعلاقة بين الإيمان والعقلانية، أو بين الروحانية والممارسة الأخلاقية، أو بين أساليب التفكير، ومنطق الدعوة، أو بين معالم الاعتقاد، وواقع الممارسة اليومية!!
هو نقاش نحتاجه بشدة لنعرف أن الخرافات التي تناولها البابا تتعلق بمغالطات فادحة عن أصل رسالة الإسلام، وعن تاريخ خبرته التاريخية، في حين لا يخلو واقع المسلمين وغيرهم من شوائب وكوارث وتصدعات تحتاج إلى اكتشاف وتصفية وترميم وعلاج. والحالة هكذا أعتقد أن المطلوب هو المزيد من العمل ومن الحوار.
بالنسبة للحوار فإن هناك كتلا بشرية قد نفضت يديها تماما من الكاثوليكية وغيرها لأنها ترى في مسلك أصحاب الأديان، وبعض قياداتها ما يعكس تخبطا وتعسفا، وهوسا بامتلاك الحقيقة، رغم أن أصل الأديان هو الاجتهاد في السعي إليها!!
كنت في فالنسيا مطلع الصيف، وهي تستعد لاستقبال هذا البابا، وفي حملة سياحية هائلة اتخذت البلدية شعارا كأنه كان:"فالنسيا تنتظرك، وترحب بك"، وبعض الأهالي اعتراضا على الزيارة كتبوا لافتات أخرى بمعنى:"أنا لا أنتظرك، ولا أرحب بك!!، ونشط تحالف من منظمات مدنية متنوعة اعتراضا على هذه الزيارة وتكاليفها من منطلقات فكرية إنسانية مختلفة.
غالبية هذه الكتل إنما تبحث عن حرية وعقلانية وواقعية وتنوير، ولا ترى سبيلا إليه عبر الكاثوليكية، أو ما تيسر لها معرفته من أديان، والإسلام بطرحه العميق غائب عن وعيهم بسبب تقصير أبنائه، وتلك قصة أخرى. وطوائف المسيحيين الأخرى لا تعترف بالفاتيكان، ولا تخضع لسلطة البابا، بل وتراه مهرطقا، ولا وزن لكلامه!!
وكثير من هذه الطوائف يحب فتح أفاق حوار مع المسلمين, ونفس الشيء بالنسبة لأتباع اليهودية من غير الصهاينة، والديانات الأخرى من بوذية وهندوسية... الخ.
والبابا داخل كنيسته نفسها إنما يمثل تيارا يمينيا متشددا، بينما هناك تيارات أخرى ذكرت منها "لا هوت التحرير"، وموقفها يختلف!!
إذن هي لحظة هامة جدا في تنشيط جهود الحوار لا تثبيطه، بما لا ينافي ممارسة أقصى الضغوط على هذا البابا لا ليعتذر، فإن الأهم هو أن يشرح لنا ماذا كان يقصد باستشهاداته وكلماته، وأن يعلن عن برنامج ومبادرة للانفتاح على عالم الإسلام والمسلمين، طالما أنه لم يكن يقصد!!
نحن بصدد لحظة جديدة تنفتح فيها فرصة للفعل، وأتمنى أننا أصبحنا نعرف أنه يمكن فعل أكبر من مجرد "الاعتراض العاقل"!!
لقد كانت "حرب لبنان"لحظة توحدت حولنا فيها قلوب كثيرة، وجهود كثيرة، ونريد أن نستثمر تصريحات البابا في تقارب أكبر، وحشد جبهة تعاون وتأييد أوسع لنا ولحقوقنا.
لا يريد أحد عاقل منا أن نشتعل غضبا، أو نحترق حزنا، أو ننفجر غيظا، ولكن نريد الوعي، ونريد الفعل والتأثير.
إن الإسلام كدين ينتشر بسرعة واتساع مذهلين، وهذا من عظمته، ومن فضل الله وصنعته، ولكن حال كثير من المسلمين في علاقتهم بالعالم وبالعقل وبالتاريخ وبعمارة الدنيا تحتاج إلى مراجعة ونقد بأقسى مما قال البابا، وإن كان قد خلط الأصل بالواقع!!
أنا ناشط في جهود الحوار بين الأديان والثقافات منذ أكثر من عشر سنوات، وأدرك خطورة مثل هذه التصريحات، ولكنني أيضا أجزم أنها فرصة كبيرة للدفع باتجاه المرجعية الداخلية، والبناء الذاتي لدوائر وجهود نفتقدها، واستثمار ما يحصل في العالم من تحركات مضادة لمثل موقف البابا، وتفعيل مبادراتنا نحن في التواصل مع هذه التحركات، وهي كثيرة من على أرضية الأديان، ومن على أرضيات أخرى لمواجهة الظلم والتميز وانعدام العدالة في عالمنا المعاصر!!
اللحظة مناسبة ومواتية وتقضي أن نبني مؤسسات، ونطلق أفكار ومبادرات لا للحوار فحسب، ولكن لتنمية مواقعنا، والدفاع عن قضايانا، والعالم يموج بتحركات ضدنا ومعنا، ومن غير المعقول ولا المقبول أن يكون حصاد عملنا هو مواقف الأنظمة الفاشلة، والمنظمات الكرتونية الروتينية، والكتل المتحمسة، ولا أن يكون ردنا دائما هو: الاعتراض وطلب الاعتذار!!
اقرأ أيضًا:
على باب الله أثينا..لأول مرة -2/ على باب الله نعمة رمضان30/9/2006