كانت قد أرسلت من وراء أعلى البحار تشكو الإحباط من تصاريف حياتها، وهي منقطعة عن أهلها، وخارج التوظيف حاليا في تلك البلاد الجملية البعيدة!!
في دورة لا تنتهي يصعد مزاجها، ثم يهبط فتستوحش، وقلما تعترف وتشكو، أو تطلب الدعم، وقد فعلت هذه المرة بعد أن فاض بها الكيل، على ما يبدو، ولم أجد ردا عليها للوهلة الأولى، ثم وجدتني أتناول المحمول لأكتب لها رسالة طويلة موضوعها: "صومي معنا".
قلت لها: ماذا لو حاولت الصيام؟! إنه رائع للجسد كما للروح والعقل، إنه مثل مهرجان يضم أكثر من بليون إنسان في كل أنحاء العالم في شعيرة واحدة، وطقس واحد.
عبر اليوم والليلة، في كل لحظة من ليل أو نهار ستجدين أناسا هنا أو هناك قائمين لصلاة، أو مجتمعين لذكر، أو ملتفين حول مائدة طعام في مكان ما من الأرض ستجدين دائما الشيء نفسه مع اختلاف الألوان، وربما الأطعمة!!
إنه شهر كامل، كما تعرفين، فحاولي أو جربي، ولو لبضعة أيام، وحاولي أيضا سماع القرآن باللغة العربية، والتجويد، ولعلك ستجدين أثره على نفسك بالاسترخاء والراحة. لا تضيعي هذه الفرصة، إن الله مع هؤلاء الصائمين الراكعين الساجدين، فكوني معهم ولو لأيام!!
أما أنا فسوف أدعو لك، وستكونين أفضل بمشيئة الله.
بعد قليل أرسلت تقول: فكرت فيما قلته، وسأفعل.
كنت أتقدم إلى مائدة الإفطار، وأنا في بيت أهل زوجتي، فخطر لي، وقلت لهم: أتصور أنه لولا رمضان لما تقابل الناس لأعوام!!
وكنت لم أزر والدتي، ولم أعرف أخبارها لمدة طويلة، تحول ساقية المشاغل!! بسبب رمضان أفطرت معها أول يوم –كالعادة- ثم يوم آخر، ثم زرتها أمس سريعا من أجل ياميش رمضان!!
والناس تتسابق على دعوة بعضها البعض، بالأمس رأيت سيارة فارهة تبطئ من سيرها، ولعل قائدها كان يعطي كناس الشارع شيئا، وإن من يمنح في رمضان إنما يبتسم، ويرجو، وأحيانا يلمح أن تقبل منه، لعل الله أن يتقبل!!
عشرات يتناثرون هنا وهناك لينثروا التمر، وأحيانا غيره، فيكون لهم أجر إطعام صائم!! روح الإيثار تسري، روح الإعطاء، ولو أنك هبطت على أحدهم وهو يهم بوضع لقمه ما في فمه، وقلت له: دعها لله، فإنه لن يتردد، لأنه طوال نهاره يفعل!!
إنه طوال نهاره يمتنع عن متع الجسد، وقد يعطي، وهو سعيد ومستمتع بالعطاء، لأنه لله!!
إن أحدهم يكاد يرى جلال الحق يتجلى على الأرض، وهو يعطي الناس، أو يبتهل، أو تندفع في صدره مشاعر الخوف أو رجاء. ألا يمكن تثبيت هذه الحالة واستمرارها واستثمارها؟!
هذه الربانية التي تعيشها الأمة، هذا البذل، هذا السمو؟! أم نكتفي بشهر كامل من الروعة فلا رفث، ولا فسوق، ولا غثاء، ولا لغو إلا لمن يريد ويطلب، ويبحث ويجتهد ليصل!!
كنا نتسامر جميعا من رجال ونساء بعد صلاة القيام، ومن تصريحات بابا الفاتيكان بدأنا!! هناك وعي بأن الهجوم مستمر، وأنه سيتكرر، وأن الاعتراض ينبغي أن يكون واضحا، وعالي النبرة، دون جنون أو رعونة!!
قلت: متحاجون نحن إلى مراجعة واقعنا وأمراضه، خائف أنا على المسلمين في الداخل والخارج، وغير خائف على الإسلام فهو أسرع انتشارا، وهو الآن في كل بيت ودائرة محور نقاش أو خلاف، قناعة أو كيد!!
نحتاج إلى بناء قدرتنا وخططنا، نحن الناس، لأن الأنظمة معتزلة مستقيلة، وكثير من المؤسسات مترهلة وفاشلة!!
بعد لحظات صمت، ومناوشات، وحورات قصيرة حول شئون أخرى، قالت: شاهدت برنامجا أمريكيا عن نساء دميمات أجريت لهن، بمعرفة البرنامج، عمليات تجميل متنوعة فأصبحن أجمل شكل ممكن، ولكن بالبحث والمتابعة وجدوا أن نفوسهن ونظرتهن لأوضاعهن وأحوالهن ظلت كما كانت، فكأن دمامة الشكل قد زالت بالعمليات، أما جراح النفس ونقصها وتشوهها قد بقي ينتظر علاجا هو الآخر!!
كانت تروي هذا لتسترسل في حوارها حول قصة هؤلاء النسوة، ولكنني سرحت فورا متأملا في كلامها، ثم لما أتيحت الفرصة وجدتني أقول: يااااه... هذا صعب وقاسي جدا!!
هذا معناه أن إصلاح الأحوال من حولنا لا ولن يكفي، لأن نفوسنا اعتادت أن ترى ذاتها، وتتعامل مع العالم من خلال التشوهات!
أي إصلاح للظروف سيكون مثل عمليات التجميل، ما لم يصاحبه تعديل حقيقي، وتغير جذري في دخل كل واحد أو واحدة فينا، وإلا فستكون مثل الحرث في البحر، وستظل شكلية ومشكلة!!
سرحت في الذين تشوهوا عبر عقود، وطبيعة مهنتي أن أراهم أكثر من غيري!! تأملت أن أرى خارج العيادة منهم أكثر مما أرى فيها!!
من يحضر إلى العيادة هو مريض يطلب العلاج، أما الآخرون فيرون أنفسهم أصحاء، بل وأكثر!!
آفات وعاهات، وأحيانا مخلفات ونفايات وأشباه بشر!! مجرمون في ثياب واعظين، ومختلون في مسوح فرسان، وحصاد نكد لعقود وعقود من الإذلال والاستبداد، الفتن والفوضى، والانهيار والخوف، وغياب التكوين والتربية والتأديب والقيم!! رحمتك يا الله.
هذا كله من وحي رمضان، وفي رحابه، شهر الأمة لعلها تنتبه وتراجع وتصلح لتكون حقا خير أمة، الحمد لله على نعمة رمضان.
اقرأ أيضًا:
على باب الله: البابا ... والذي أسأنا فهمه(2)/ على باب الله: لبنان في القلب