حين ظهرت تعتعة الأسبوع الماضي عن تفسيري لمعنى (وليس لشخص) حسن نصر الله بالذات في وعي النشء، سألني أحد زملائي الأصغر (تلميذي، إبني،..) عمّا هو الوطن عندي؟ وماذا كنت أعني بالفقرة التي قلت فيها:
"يتكون مفهوم الوطن في وعينا منذ طفولتنا رغماً عنا،... يقفز مفهوم "الوطن" من داخلنا إلى قرب ظاهر وعينا حين تُذكر ألفاظ مثل "الأرض"، أو "الملك"، أو "القبر"، أو "الحرب"، أو "الحب"، أو "الناس" وإلى درجة أقل "الدين"، "العنصر"، " التاريخ".
رحت أقرأ الفقرة من جديد لأجيبه، ودهشت أنه ليست عندي إجابة! وفرحتُ –كعادتي- حين أكتشف أنني كتبت شيئاً "غريباً عني أنا شخصياً"، أحياناً تتسرب مني الفكرة الجديدة ولا أكتشفها إلا وأنا أعيد قراءة ما كتبت، رحت أتعجب وأعذر السائل فعلاً، كيف يكون "القبر" مثلاً من المفاهيم التي تحرك الوطن داخلنا؟ أو: كيف يكون التاريخ أقل أهمية في تحريك "ما هو وطن" فينا؛
ثم اكتشفت أنه يبدو أنني أعامل مفهوم الوطن باعتباره وعياً يملؤنا، لا أرضاً نطأها، نحن نستلم صفتنا الوطنية منذ الولادة دون اختيار (مثلما نستلم ديننا)، وهات يا تقديس، وهات يا تصنيم... وحين نتجاوز حدود الوطن فكراً أو سفراً أو هجرة، يقفز فينا الوطن/الوعي أقوى وأجمل ثم يتقارب وعي الأفراد الذين وصلتهم نفس الرسائل ليشكلوا معاً وعياً جماعياً اسمه أيضاً: "الوطن".
رحت أبحث في أوراقي عن تطور علاقتي بهذه الفكرة، فوجدت ما يلي:
أولاً: أهديت ديواني بالعامية لوطني (الأرض/الناس) هكذا:
قلت "أهْدِيهاَ لْبلدنا، للِّي غنّى.. والَّلي صَحَّاهْ الغُنَى.، يَا مَا قُلْتُوا يَا أَهْل مصر يا فنانين، يا غلابَه، يا حضارَهْ، يا تاريخ، يا ما قُلْتُوا، ويَا مَا عِدْتُوا، صَحِّيتُوني، واللي بَنَتْ مَصـْـر كاتْ في الأصل: غِـنَّيَوهْ
الهديّه للي غنّى، قال: "بَهِيّهْ لي يَاسينْ"، واللِّي صَحَّى لَيْلَى والمجنوُنْ يِـغَـنُّوا لمْصَرْ تاني، واللِّي علمني حلاوة الـمُرْ.. من جُوّا النَقَايَهْ ،......، يا تَـرَى يا أهْل الحضارة والكَلاَمْ الحِلْو واللِّحْنِ الأدَانْ، تقَبلُوا منِّي الهدِيَّهْ؟ أصلي غاوي، بس يا خسارَهْ مانِيشْ لا بِسْ طاقِيَّه، قلت انقَّـَّـطْ بالَكَلامْ."
ثانياً: أنهيت نفس الديوان، بقصيدة أدعو بها صديقاً كان على وشك الاستقرار في الولايات المتحدة للعودة وأنا أذّكره بما هو "نحن" /"مصر/الوطن"، قلت له:
"يا طير يا طاير في السما... رايح بلاد الغـُرْب ليه؟ إوعكْ يكون زهقكْ عماكْ: عن مصرنا، عن عصرنا، تفضل تلفْ تلفْ كمَا نورس حزينْ، حاتحط فينْ.. والوجد بيشدّك لفوقْ، الفوق فَضَا، الفوق قَضَا. وعْنيك تشعلق كل مادَى وتنسى طين الأرض مصر."
ثالثاً: رجعت أؤكد في نهاية نفس القصيدة أن مصر ليست هي طين الأرض، ولكنها قاعدة، وعينا ننطلق منها إلينا، إلى كل الناس، قلت:
"دانا لما بابُصّ جوّا عيون الناسْ، الناس من أيها جنس، بالاقيها فْ كل بلاد الله لخلق الله. وفْ كلّ كلامْ،.. وفْ كلّ سُكاتْ،.... وإذا شفت الألم، الحب، الرفض، الحزن، الفرحه في عيونهم..، يبقى باشوف مصر، وباشوفها أكتر لما بابص جوايا، .....، والناس الحلوين اللي عملوا حاجات للناس، كانوا مصريين !!:.."كل واحد همُّه ناسُهْ، كل واحد ربـُّهْ واحدْ، كل واحد حـرّ بينا، يبقى "مصري"،... تبقى مصر بتاعتي هي الدنيا ديه كلها، هي وعد الغيب، وكل الخـلـق، والحركة اللي تبني.
رابعاً: وفي صحوة أخرى، وجدت لي قصيدة متجاوزة، لم تنشر، وجدتني من خلالها -بعد أن عرّيت التعصب المحتمل- أقبع في قبري وطني/الرِحمْ/ الشبر هكذا:
"لمَّا تمايلَ جمعُهم مكبـِّراًً، مـُـهـلِّلاً، في حب أرضنا الوطنْ، أفرغتُ وعيي من خبايا حكمتي، فضبطُ نفسي هاتفاً: "يحيا الوطن".....
فأطلَّ من بين الضلوعِ، ابنُ السفاحِ الباسمُ المستهزئُ: ومضى يقول: "لكلِّ من ولدته أمُّه وطنْ، مثل الوطن"
يـا أرضَ ربّي قد وسعتِ الناسََ والسباعَ والطيورَ والحجارة، لكنني أرنو لشبَرٍ واحدٍ: "أنا"، يضمُّّ عظمي يحتويني رحِمَا."
وبعد،
يا صديقي العزيز، يا بني، أيها السائل عن معنى الوطن دعني أشكرك أن أتحت لي أن أعيد التعرف على بعض رحلتي، وكيف تكونت عندي فكرة أن الوطن هو وعي في حالة تكوّن مستمر، وأنه ليس صنماً، الوطن هو "نحن" "معاً" نتشكل "إليه" استمرار.
إن ما يقوم به إعلامنا هذه الأيام هو إجهاض لأي احتمال وعي طازج لا يكاد يتكون حتى يتخثر ببصاقنا نحن فيه هكذا.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نشرت في الدستور بتاريخ 6-5-2009
اقرأ أيضا:
استحالة الممكن وحتمية المستحيل / تعتعة: معنى آخر لـ: حسن نصر الله / تعتعة: تحديث أرجوزة: عن المفاوضات وخطة الطريق