كان لقاءً ناجحاً ومفيداً مع الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي، والدكتور عبد العزيز أبو الخشب، في برنامج "بالمصري" على قناة "On TV"، وكانت هذه أول مرة أسمع فيها أحداً يتكلم على الخرافة بالطريقة التي تكلم بها الدكتور وائل بارك الله به... فبينما اعتدنا أن نسمع المتكلمين في هذا الأمر ينظّرون ويلقون نظرياتهم إلى الناس وهم جالسون في برجهم العاجي، كان الدكتور وائل يعيش بين الناس ويتكلم بلسان حالهم دون خروج عن العلم أو الشرع أو الواقع...
كذلك فإن الدكتور عبد العزيز أعطى الدواء لكل خلل في واقعنا بكلمات جامعة مانعة، وربط قضية الخرافة والتبرك بالأشجار بذلك الدواء بطريقة قد تبدو غامضة للبعض ولكنها فعلاً هي ملخص ما نعانيه... وأما هذا الدواء فهو: (الإخلاص، والإحسان، والالتزام، والصدق)...
إن الإجابات المبدعة، والطرح الجديد لمشكلة الخرافة والتبرك بالأشجار أو التداوي بها جعلتني أتفاعل مع الموضوع، وأثارت في ذهني سلسلة من الأفكار أحببت أن أسطرها في هذه السطور...
مما دار في ذهني، أن الخرافة في اللغة هي: الحديث المستملح من الكذب. وهي كلمات وأحاديث لا صحة لها عند الناس... بينما العلم هو: إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع عن دليل.
وعلى هذا، ما هو العلاج المستند إلى الخرافة؟ وما هو العلاج المستند إلى العلم؟
كما هو ظاهر: إن العلم والخرافة على طرفي نقيض، وإذا أردنا أن نميز أحدهما من الآخر فالمقياس هو المطابقة للواقع أو مخالفته عن دليل... ولكي يكون تداوينا مشروعاً مستنداً إلى العلم لا بد من مطابقته للواقع في أمرين اثنين:
أولهما: أن يطابق الواقع في كون الدواء الذي نتناوله مرتبطاً بحصول الشفاء. فإذا تكرر الشفاء من مرض ما عند تكرر تناول دواء معين، قلنا أنه ثبت بالدليل العلمي أن هذا الدواء نافع في علاج ذلك المرض.
ثانيهما: أن يكون اعتقادنا في كيفية حصول الشفاء عند تناول الدواء مطابقاً لما عليه الأمر في الواقع، وهو أنه لا تأثير للدواء في حصول الشفاء، وإنما الله تعالى هو الذي يعطي الدواء القوة على شفاء المريض لحظة تناوله له.
وهذا مستند إلى أساس من أسس العقيدة الإسلامية: وهي أنه لا يوجد مؤثر مع الله تعالى في الوجود، بمعنى أنه لا تأثير للأسباب في مسبَبَاتها ولا تلازم بينهما، فلا تأثير للنار بالإحراق، ولا للطعام بالشبع، ولا للدواء بالشفاء، وإنما جرت عادة الله تعالى أن يجعل الإحراق يحصل عند ملامسة النار للأشياء، والشبع يحصل عند تناول الطعام، والشفاء يحصل عند تناول الدواء، ولأن الله تعالى أجرى عادته على ذلك أمرنا باتخاذ الأسباب، لا لأنها هي التي تؤثر بذاتها...
فلو شاء الله عز وجل لجعل تلك العادة تتخلف فتلامس النار الأشياء دون أن تحترق، ويأكل الإنسان الطعام ولا يشبع، ويتناول الدواء فلا يشفى...
فالله تعالى إذن أمرنا بأخذ الأسباب وبالتداوي لأنه أجرى عادته على حصول الشفاء عند تناول الدواء، فنحن نتخذ الأسباب ونتداوى عبادة لله عز وجل، وطاعة لأوامره التي إن خالفناها كنا من العاصين...، ولكن يجب علينا أن نعلم أن الدواء لا يشفي بذاته، ولا بقوة أودعها الله تعالى فيه تجعله يشفي الأمراض، ولكن الله تعالى يجعل الدواء شافياً بقدرة منه تعالى يودعها فيه لحظة تناوله... فإذا قام المريض ليتناول دواءه، أودع الله تعالى في الدواء قوة على الشفاء عند تناول المريض له، ثم إذا قام لتناوله في اليوم الثاني أودع الله تعالى فيما يتناوله منه قوة على الشفاء عند تناوله أيضاً، وهكذا... ولو لم يمد الله تعالى الدواء بقدرة على الشفاء في تلك اللحظة لما كان له أثر في جسم الإنسان، ولما زال المرض مهما تناول الإنسان من الأدوية المختلفة...
وبالاستناد إلى هاتين الحقيقتين يتبين لنا الآتي:
1- إذا تناول الإنسان دواءً ما –من الأدوية الحديثة أو القديمة المتوارثة- دون أن يثبت -بتكرار التجربة- ارتباط تناوله بحصول الشفاء من مرض معين، فإن تداوي هذا الإنسان قائم على الخرافة لا على العلم، حتى إن كان عنده يقين راسخ بأن تأثير الدواء في الشفاء من الله تعالى لا من ذلك الدواء.
2- إذا تناول الإنسان دواءً قد ثبت بالتجربة -مراراً- ارتباطه بحصول الشفاء، ولكنه كان معتقداً أن ذلك الدواء مؤثر بذاته في الشفاء، أو كان معتقداً أن الله تعالى أودع فيه قوة الشفاء فهو يشفي بواسطة هذه القوة المودعة الموجودة فيه، دون حاجة لأن يمده الله تعالى بالقدرة على الشفاء حيناً بعد حين عند تناول المريض له... إذا كان الإنسان معتقداً أحد هذين الأمرين عند التداوي فإن تداويه قائم على الخرافة لا على العلم مهما كان الدواء ناجحاً في حقل التجربة؛ وذلك لأنه أثناء تداويه خالف الواقع في حقيقة من كبرى حقائق هذا الكون...
وبمعرفة هذا يمكن بكل بساطة أن يتبين الحكم بشأن ما يفعله الناس عند ذهابهم إلى الأشجار وتداويهم بها: فنسأل: هل ثبت حقيقة –لا بالشائعات والقصص المتوارثة- أن التداوي بتلك الشجرة مرتبط بحصول الشفاء من الأمراض؟ وهل يذهب الناس إلى الشجرة من باب اتخاذ الأسباب والتداوي بما جعله الله تعالى سبباً للشفاء؟ فإن كان الجواب: نعم. كان هذا تداوياً مستنداً إلى العلم وإن كان مأخوذاً من الشجرة، أو النهر، أو التراب...
وإن كان الجواب: أننا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، وبتأثير هذه الشجرة بالشفاء سمعناهم يقولون، وغير هذا الدليل عندنا لا تجدون. أو كان الجواب: إنما نذهب إلى الشجرة لأن فيها قوة عجيبة مقدسة في الشفاء... فهذا التداوي قائم على الخرافة ولا ريب.
أو كان الذاهب إلى الشجرة ونحوها... إنما يطرق كل باب جزعاً وخوفاً من المرض، ورغبة في العافية، ولا يهمه من أين حصل الشفاء ولا كيف، ولا يعنيه من الذي شفاه... فهذا تداويه مبني على الخرافة -أيضاً- ولا ريب... فالتداوي في الشريعة الإسلامية: دواءٌ للفكر والعقل قبل أن يكون دواءً لعلة أخرى في الجسد؛ وتقرب إلى الله تعالى ونجاح عنده، قبل أن يكون نجاحاً في اختراع دواء عجيب في الدنيا...
ولو تعلم الناس هذه الحقائق لما ضرهم أن يأخذوا دواءهم من شجرة أو نهر، أو كلمات تقال ويرقى بها المريض...
أما لو جهلوها، فهم عبيد الجهل وجنود الخرافة، وإن أخذوا دواءهم من أكبر معمل تجريبي على وجه الأرض...
بل ويحق لنا أن نقول عنهم حينئذ: إنهم يتعالجون بخرافة العصر الحديث...
واقرأ أيضاً:
ليتكم تدرون.... / غزة / الجاهل الأخير / الجاهل الأخير مشاركة