جاءني صوته في التليفون مؤكدا أنه قابلني في إحدى القنوات الفضائية التي يعمل فيها معدا ولكن معرفتي أنا به ليست مؤكدة، ودعاني للمشاركة في برنامج تليفزيوني لإحدى القنوات الشهيرة في ليلة التاسع والعشرين من رمضان، وكنت قد قررت أن أرفض أي دعوة في الليالي الأخيرة من الشهر الكريم كي أعيشها في سكينة وسلام بعد عام صاخب بالعمل والأحداث، وفعلا رفضت دعوات كثيرة كنت أحرص على تلبيتها، ولكنه لاحقني قبل أن أجيب قائلا: سيكون التصوير ليلا بين مقابر الدرّاسة في مدينة القاهرة وسيكون الموضوع عن معتقدات ساكني القبور عن الجن والعفاريت والأرواح والمشاهد الغريبة التي يرونها في حياتهم اليومية بين الأموات وتأثير ذلك على نمط حياتهم.
بهرني الموضوع وبهرتني جسارة القائمين عليه ورأيت فيه جديدا يكسر الملل الذي أصابني من برامج الفضائيات الحوارية التافهة والمكررة والنمطية، وأحسست أننا بهذا نقترب من أهل مصر المهمشين والمعذبين (أو كما يسميهم كاتبي الجميل بلال فضل: سكان مصر الأصليين). وسألته عن موعد التصوير، وكأنني أريد أن أجد ثغرة للإفلات من هذا الأمر كي أنتهي من ختم المصحف (تبقى علي عشرة أجزاء) في الوقت القصير المتبقي وكي أجلس مع أسرتي وأستشعر الجو العائلي الذي أحبه وأحرم منه في أغلب الأوقات، وأشاهد ما تبقى من مسلسلات رمضان التي أرى أجزاء منها في أوقات متفاوتة ثم أجمعها في رأسي وأكمل ما نقص منها في خيالي، فقال لي متحمسا: سيكون التصوير ليلا من الثامنة مساءا وحتى الفجر.
وهنا صدمت أكثر وتحمست أكثر، إذ كيف ندخل تلك المقابر ليلا وهي مخيفة وموحشة نهار، ولكن حماسي كان قد دفعني للموافقة، وبعد أن وضعت سماعة التليفون، نسيت هدوء وسكينة آخر ليلة من رمضان، وبدأت تدور في رأسي سيناريوهات وتساؤلات عديدة: من يدريك أن هذا فعلا برنامجا تليفزيونيا وليس كمينا لشيء آخر؟؟...
ودار في ذهني ما حدث لأيمن نور أيام زكي بدر حين استدرج لمنطقة نائية بحجة إعطائه معلومات خاصة جدا عن الجماعات الإسلامية إبان عمله الصحفي في جريدة الوفد، ولفرط حماسه ذهب ولم يجد هناك إلا علقة ساخنة كاد يموت فيها (وكأنه بعد سنين لم يتعلم من الدرس فعاود الحماس وعاود الذهاب وعاودوا الضرب)، وتذكرت أحد الكتّاب الصحفيين حين نزعوا عنه ملابسه وتركوه وحيدا عاريا في الخلاء، وتذكرت حوادث السطو المسلح والخطف والقتل والإستدراج التي أقراها في الصحف كل يوم، وزاد من مخاوفي عدم معرفتي بمن دعاني لهذا العمل الغريب زمان ومكان، وفكرت أكثر من مرة في الاعتذار واعتبرت ذلك مخاطرة غير محسوبة ولكنني وضعت في الاعتبار أن تكون مخاوفي هذه لا أساس لها من الصحة وأن يكون ذلك فعلا برنامجا حقيقيا وأنا أعرف كم يكلف الإعداد له من جهد ومال وفكر ، إضافة إلى حماسي للاقتراب من هذه الفئة المنبوذة والمظلومة من أهل مصر والتي استوى عندها الموت بالحياة التعسة فقرروا الذهاب للمقابر قبل الأوان.
وبينما أنا أشق طريقي في شوارع وسط القاهرة مرورا بمناطق الحسين والأزهر العامرة في ليالي رمضان أحسست بالفرق الكبير بين ما أنا فيه الآن وما أنا مقدم عليه من مخاطر مجهولة (ربما تصل إلى الموت) بعد لحظات قصيرة، وبدأت أصحح نيتي كالعادة وأدعو الله أن يوفقني لقول الخير وفعل الخير لعباده، وبعد عبوري للنفق في نهاية شارع الأزهر دخلت إلى منطقة المقابر وبدأت أنتقل إلى عالم آخر مختلف تمام، ولم أجد أحدا في الانتظار فاتصلت بمحدثي فطلب مني التوغل في المقابر إلى أن أصل إلى قهوة " ...... "؛
وحاولت أن أجد أحدا أسأله دون جدوى، فمن النادر هنا أن تجد أحدا يمشي، وبعد وقت وجدت قهوة صغيرة فسألت صاحبها وعرفت أنها القهوة المقصودة وفكرت أن أجلس فيها لحين قدوم محدثي ولكنني ترددت حتى لا أضطر أن أشرب فيها شيئا لا أعرف طبيعته أو مكوناته فأنا أريد أن أظل مستيقظا فى هذه الظروف الغريبة، كما أن هذه القهاوي المعزولة غالبا ما تحيط بها الشبهات أو تداهمها الحملات، فظللت في سيارتي لبعض الوقت أنتظر وأنا ألمح صاحب القهوة فى المرآة ينظر إلى السيارة بشك يخالطه غضب.
وبعد لحظات وصل اثنان من الشباب قادمين من أحد الحواري الضيقة بين المقابر وسلما علي وركبا معي في السيارة (أحدهما بجانبي والثاني من خلفي) وطلبا مني الدخول في تلك الحواري واكتشفت أنني لا أعرف أحدا منهما فزاد هذا من توجسي وصرت ألوم نفسي على أنني بعد كل هذا العمر ما زلت أرتكب حماقات من هذا النوع فلم أطلب قدوم سيارة معلومة المصدر تأخذني من مكان معلوم كما يحدث في مثل هذه الأمور دائما.
ثم قطع أحدهما تفكيري وطلب مني التوقف والنزول من السيارة، ونزلت فلم أجد في المكان ما يدل على وجود فريق عمل باستثناء شخصين آخرين وجدتهما واقفين ولا توجد سيارات أو معدات تصوير وازدادت الاحتمالات السيئة رجحان، وسبقني أحد الشباب وتبعني أحدهما وبدأنا الدخول في المقابر في طرق ملتوية ومظلمة لا نكاد نرى إلا شواهد القبور وفي بعض الأحيان كنت أرى أحد الشواهد تتحرك وحين نقترب أكتشف أنه رجل واقف في الظلام، أو أجد شيئا صغيرا يتدحرج أمامي فأكتشف أنه طفل أو طفلة أو كلب أو قطة لا أدري على وجه التحديد، أو أرى صخرة سوداء تتحرك وحين أقترب أكثر أكتشف أنها امرأة أو شيئا نحو ذلك، وهناك شيء مشترك يجمع بين كل ذلك ألا وهو الصمت، ومن كثرة انحناءات الطريق وتعقيداته أصبحت متأكدا من استحالة العودة بمفردي إلى حيث تركت السيارة.
والعجيب أنني رغم تفكيري العقلي في كل الاحتمالات الخطرة لم أشعر بخوف حقيقي على مستوى المشاعر، وربما يكون ذلك راجعا إلى مهنتي التي تعودت فيها على المفاجآت وغرائب الأحوال والأمور فكثيرا ما تعرضت لمواقف حرجة حين أذهب للكشف على مريض خاصة في بيته، ففي مرة احتجزني أحد المرضى ذوي الشكوك المرضية وأغلق باب الغرفة من الداخل وليس بها إلا أنا وهو واعتبرني جزءا من المؤامرة التي يعتقد في وجودها وهددني بالقتل إن لم أخبره عن بقية أفراد العصابة التي تخطط لسرقته وقتله، ومرة أخرى دعيت لعلاج مريضة في بيت أهلها فاكتشفت أنها طبيبة زميلة في إحدى أقسام المستشفى الجامعي الذي أعمل به وهي تقف في المطبخ ممسكة بسكين طويلة تلوح بها نحو رقبتي، وقصص أخرى كثيرة من هذا النوع جعلتني أتوقع من البشر (كلهم) أي شيء دون استغراب أو مفاجأة.
ويتبع >>>>: سهرة مع سكان القبور(2)
اقرأ أيضاً:
الحلم بعد الأخير لنجيب محفوظ / أسرار النجاح