من فرط سجن الدين في ألفاظ المعاجم، ومن غلبة تمحك بعضنا في قشور العلوم المتغيرة، يُسوقون بها ظاهر الدين للبسطاء، مع أن فطرتهم النقية لا تحتاج ذلك أصلا، ابتعدنا عن الله وعن الإيمان وعن الجمال نتيجة الشعور بالنقص أمام أصنام علوم بعضها زائف. هم يحولون بذلك بين وعي البشر وجدله مع وعي الكون: سعيا إلى وجه الله، نأخذ مثالا ما يجري كل عام حول أولوية ترجيح رؤية هلال رمضان، فالعيد، بالعين المجردة أم بحسابات الفلكين.
من نافلة القول أننا نوافق على بديهية أن الفلك أدق وأكثر انضباطا؟ ولكن من قال إن هناك فرقا عند ربنا أن نمتنع عما نهانا عنه ثلاثين يوما أو ثمانية وعشرين؟ من قال أن المسلمين لابد أن يصوموا معا ويفطروا معا؟ كل هذه افتراضات وضعناها بناء على اجتهادات سطحية تفتقر إلى عمق ما جاء له الدين.
نخن نعامل العبادات بمنطق واجبات تلامذة المدارس، وشطارة برامج الحاسوب.
لم تنزل الأديان لتعلمنا الجغرافيا أو علم الأحياء أو الفلك، لم يقسم الله بالتين لما فيه من فيتامينات، ولا بالزيتون لزيته النقي، إنما بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام ليسهلوا على عامة الناس الطريق إليه، العبادات تقوم بذلك خير قيام دون حاجة تبرير أو تفسير العبادات هي العبادات، لا أكثر ولا أقل، هي تساعد الإنسان بكل ما هو:
عقلا وقلبا وجسدا ووعيا وفكرا وحدسا أن يكتشف طبقات وعيه، فتنطلق في جدل خلاق مع دورات الطبيعة من حوله، وهو يتلمس طريقه إلى وجهه سبحانه. رؤية الهلال بالعين (حتى لو لم يظهر خارجها) هي بعض ذلك، وهي أفضل من اتباع حسابات المراصد وأنت غائب الوعي عن نفسك وعن الطبيعة، وعن الله، إنها لا تعمى الأرصاد، ولكنها لا تبصر ما تبصره عقول وعي إنسان عادي أشعث أغبر: ابتهالا أو تخيلا!! واقع البشر في داخل داخلهم (الإنسان العابد في فطرته النقية) ليس أقل واقعية- عند الله ومن يعرفه- من واقع الفلك والسماء والحسابات.
الإسلام انتشر وبقي عند كل هؤلاء الناس لأنه يخاطب كل مستويات وعيهم في آن واحد، يخاطبها جميعها وهو يعزف سيمفونية الإيمان على آلات العبادات البسيطة وهو يجعل لنا الأرض "مسجدا وطهورا"، والسماء تلمع بالطارق، النجم الثاقب، في لحن مباشر، جدلا مع وعينا دون حائل أو وصاية.
مخاطبة الفطرة السليمة بهذه المباشرة المخترقة هي التي جعلت الإسلام ينتشر خاصة بين المستضعفين ليجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، فكيف يزعمون أنه انتشر بالسيف؟!
كما نفخر نحن بلا تردد- ربما لشعور بنقص آخر- أنه دين العقل، ونحن لا نعرف تعريفا جامعا مانعا حديثا لما هو "عقل" نحن لا نعرف الله سبحانه من خلال إثبات وجوده بعقل "أرسطي" لم يعد يمثل من وسائل المعرفة إلا أضعفها، هذا العقل هو الذي يستطيع، بقصوره المتحذلق، أن ينفي وجوده بمنطقه اللامع المسطح، نحن نعرف ربنا بعقل القلب، وعقول الجسد، وعقول الحركة مع إيقاع الكون الحيوي، نعرفه مع دورات الصحو ونبض النوم، هذا ما تؤكده كل العبادات في الإسلام وهي تسهم في تناغم إيقاع البشر الحيوي مع الإيقاع الحيوي الكوني، نحن نصلي مع دورات الشمس ونصوم مع رؤية القمر، نحج كذلك معه.
العبادات توثق علاقة الإنسان المباشرة بالطبيعة وبالناس، فما دخل المراصد وعلوم الفلك في ذلك- بالله عليكم؟ الله طلب الصوم ممن "شهد" شهر رمضان وليس ممن حسبه وحفظه، وسمعه. المشاهدة بالعين للهلال وللشمس وللقمر وللسماء والجبال والتين والزيتون والطير كل يسبح بحمده، هي التي توفر الجدل مع الطبيعة في الكون إلى وجه الله.
أضف إلى كل هذا مزية احترام خبرة الشخص العادي وتصديقه رغم أنف التلسكوب وجداول الضرب، قد يضر تجاوز حسابات الفلك بسفينة فضاء قبيحة موجهة نحو قمر مظلم، ومع ذلك علينا أن نحترم هذه الحسابات ونحن داخل كبسولة الفضاء، لكن احترامها هذا لا ينبغي أن يمتد، نتيجة شعورنا بالنقص، وخوفنا من معايرتهم، حتى تنحشر تلك الحسابات بيننا وبين ربنا دون دعوة منه.
أما أن يصوم المسلمون مختلفين كل فريق حسب رؤية بعض أهله، فهذه مزية أخرى لما فيها من "سماح بالاختلاف"، ونحن نزعم ليل نهار أننا نحاول "قبول الآخر المطلوب هنا هو أن نقبل بعضنا البعض حتى يطمئن "الآخر" أننا يمكن أن نقبله.
لندع الدين يؤدي دوره دون شعور بالنقص، وليثرنا العلم في مجاله دون وصاية على غيره من منظومات المعرفة والتواصل.
اقرأ أيضا:
ثقافة السلام للاسترخاء وثقافة الحرب للبقاء! / كل شيء هادئ في الميدان الشرقي!! / صرح بأي شيء تقرره ستجد من يبرره!!