حين قالت البنت لأبيها "أريد أن افعل مثلك يا أبى" أجابها لتوه "افعلي يا حبيبتي"، قالعها وقد امتلأ زهوا، وانفرجت أساريره، وأقبل عليها فرحا لأنه أنجبها، وأنه أخيرا وجد من يريد أن يقتدي به، اقترب منها وهو يقول لنفسه: فلتجئ أمها لتسمع ما تقوله ابنتها، ابنتنا، ابنتي. انتفخ أكثر وهو يربت على كتفها في حنو ويضيف: "أعني، سوف تفعلين مثلى يا حبيبتي، حين تكبرين، أنت ما زلت صغيرة"، قالت البنت: "هل حقا يا أبي سوف أستطيع أن أوقفه حين أكبر"، فزع الرجل، وتصور أنه لم يسمع، فاستبان الأمر متردداً: "توقفين ماذا يا حبيتي؟" قالت البنت بهدوء: "أوقف عقلي عن التفكير".
لم يصدق الرجل أنه سمع ما سمع، ومع ذلك استطرد وكأنه سمع، قال وصوته يرتفع حتى صاح: "ما هذا الذي تقولينه يا بنت أنتِ؟ ومن قال لكِ أنني أوقفت عقلي؟" قالت البنت: "لمَ تغضب هكذا يا أبى، لقد اكتشفت أن هذا ليس عيبا، بل يبدو أنه مريح جداً، برغم أنه صعبٌ علىّ، أنت توقفه يا أبى بسهولة عجيبة، يا بختك يا أبي، يا شطارتك" ضبط نفسه -لثوانٍ- فرحا لأن ابنته تراه شاطرا هكذا، لكن سرعان ما غمره غضب كتَمَهُ بسرعة لاهثة، وهو يشك في أن أمها قد أوعزت لها أن تسخر منه، ثم استبعد ذلك، فأمها لا تعوزها الحيلة، وهى لا تتردد في أن تسخر منه مباشرة سرا وعلانية، أمام من يساوي ومن لا يساوي.
أمسكت البنت بالصحيفة وهي تتأمل صورة السيدة في صفحة الرأي، كانت قد حاولت أن تقرأ بعض ما كتبته، يبدو الكلام صعبا، فعادت إلى أبيها لعلها تصالحه، ناولته الصحيفة وهى تسأل: من هذه السيدة يا أبي؟ قال لها أنها نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا، قالت يعني ماذا؟ قال: "يعني حاجة كبيرة جدا جدا"، قالت البنت:"أريد أن أكون مثلها" فرح الرجل وقال لنفسه:"عادت البنت إلى عقلها" قال لها: "تشطري يا حبيبتي، وأنت تصبحين مثلها، وربما تصبحين رئيس المحكمة وليس فقط نائب رئيسها".
قالت البنت "هل حقا يا أبى سترضى أن أكون مثلها" قال : "طبعا"، فأكملت:"لكني لم أفهم كل ما كتبتْ، أنها تقول كلاما غير ما قلته لي حضرتك" قال الرجل: "طبعا، هي قانونيه كبيرة، أنا رجل على قدر حالي"، قالت البنت: "خيل إلي أنها تفكر مثلي، أقصد يعني، ربما ليس تماما، قل لي يا أبي: كيف تستطيع ألا تفكر مثلنا؟".
كان قد حسب أنه نسى، أو أنها تأدبت، قال وكأنه يعايرها: "ألم تقولي أنك لم تفهمي". قالت البنت "لقد فهمت بعض الكلام غصبا عني"، قال الرجل:"وهل يفهم أحد شيئاً غصبا عنه، أنت تهذين "قالت البنت: "ألم أقل لك يا أبي، إنني أريد أن أوقف عقلي مثل حضرتك، حتى لا أفهم غصبا عني؟".
اقتربت البنت من أبيها ثانية وهي تشير إلى صورة السيدة الكاتبة قائلة: "سوف أذاكر وأطلع الأولى في الإعدادية. قال الرجل: "هكذا تكونين ابنتي بصحيح"، أكملت البنت: "وهل إذا صرت رئيسة محكمة أخلع الحجاب؟" انتفخ وجه الرجل وجحظت عيناه، همَّ أن يصفعها فزعا، لكنه سرعان ما تدارك نفسه، وبدأ يتكلم، خيل للبنت أنها ارتدّت بضع سنوات، نفس الكلام بالحرف الواحد!!! كيف يكرره هكذا وكأنه قطعة محفوظات؟ كيف حضرَها هكذا مع أنها تصورت أنها نسيته، نفس البداية، نفس النهاية، نفس صوته الذي يأتي من بعيد كأنه ليس صوته: "هذا ما قاله الذين يفكرون لنا، ويفسرون لنا أوامر الله سبحانه وتعالى". قالت البنت: "ولكن ما فهمته، أقصد ما لم أفهمه، هو أن هذه السيدة الجميلة تفكر أيضاً بما يرضي الله"، لم يستطع الرجل أن يتراجع عن المديح الذي سبق أن كاله للسيدة، فصاح: "وأنا مالي؟" قالت البنت "لهذا أريد أن أفعل مثلك يا أبي".
صاح الرجل يخاطب نفسه،"هذه وقاحة، لن أدخل البيت صحيفةً واحدة بعد الآن"، فوجئ أن البنت سمعتْه، فقالت: "طيب والنَّت؟" واصل يخاطب نفسه بصوت مسموع أكثر: "سوف أقطع خط التليفون، "قالت البنت: "طيب، وماما سوزان؟ ما هِيـَ........ لم تكمل، إذْ أن أباها قفز منطورا من المقعد وهو يتلفت بسرعة حوله يمينا ويسارا وللخلف، اندفع كأنه يهم بإغلاق النافذة، لكنه لم يفعل، رجع للبنت فزعا، ثم توجه نحوها يكاد ينقض عليها، ثم تراجع وهو يصيح:
ـ اربي عن وجهي يا قليلة الأدب.
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: والله العظيم البنت معها حق! / سوهاج.. وأدباء مصر.. والعلماء البروليتاريا / تعتعة سياسية: أبدا كنت أمزح!!