أغادر بلادي ولا تغادرني، أهرب من همومي فيها فأجدني مرتميا في أحضانها على كل فراش أبيت في غربتي... كتبت جادا إلى صديق ذات مرة: أما عندك من علاج؟! ثم مَرِض هو أيضا!!
هل أشعر بالامتنان أم بالحنق والغيظ تجاه من علموني أن حب الأوطان من الإيمان؟! وأن من لا وطن له فلا دين له؟! وأنه ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط!!، من علمني أن ما تعرضه الشاشات أغلبه لغو وهذر فلم أعد أطيقه، ولا أطيقها!!
من علمني أن عامة أحاديث المجالس ثرثرة، وسيرة الناس موضوع ممل، ولا يجدر الخوض فيه!! فما بقي لي صديق ولا جليس!! من علمني أن هذا العادي واليومي الذي تعيشه الملايين غير جدير بالتجريب!! من علمني أن أهتم وأنصت، وأتعلم وأتغير!!
من علمني ألا أنتمي سوى للريح والترحال، وأبحث عن الحقيقة، ولو طال المسير؟! من علمني عشق هذه التي هي غير مكترثة، تأخذني إلى دروب الحكي والدهشة، أتوغل فأعود بالألم، وتمضي هي كأن شيئا لم يكن!!
في جولتي الأسبانية الأخيرة غرقت في التأملات عن هؤلاء الذين يريدون الانفتاح علينا، ويمدون لنا الأيادي، ونحن لا إجابة عندنا، ولا خطة حول ما نريده منهم!!، وهذا نص ومعنى كلام سفيرنا الشاب المتحمس هناك، بارك الله فيه، وأدام عليه الذكاء والحماس، وأمده بعونه، وبعون الناس!!
أنظر إلى المباني في الشوارع فأتذكر مثيلاتها في وسط البلد عندنا، كم يعلوها التراب، وتحاصرها العشوائية، وحين قلت هذا لأحد الإخوة ذات مرة من عشرين عاماً، ضحك وقال: "جماليات العمارة، وتنسيق البيئة من حولنا يبدو ترفاً"، وأنا شخصياً أصبحت مقتنعاً أكثر أنه طالما بقي الإنسان حولنا وفينا، عشوائياً، بدائياً، لا نظام له في تفكيره ولا حياته، ولا أحد يحبه بصدق أو يحترمه بعمق، طالما ظل محروماً من تذوق الجمال الروحي والوجداني، طالما ظلت النفوس مكدودة، والأرواح منهكة بالمادة والضغوط، والخواطر تائهة مضطربة، فإننا سنظل مجرد خامات لبشر، أو بشرا خام ناقصين للتحضير والتمدين والتربية الثقافية والاجتماعية والنفسية!! نحتاج فعلاً مع كل هذا الذي يجري لنا وحولنا إلى أنسنة الإنسان!!
قلت لهم: أسبانيا تفتحنا على عدة مساحات، الأولى في الزمان حيث لحظة "أسبانيا الأندلسية"، وانتبه عميد المستعربين هناك، وسألني: لماذا تؤلف هذا المصطلح؟! وأقول له: لأنه أصدق ما أتصوره تعبيراً عما أريد وأفهم عن هذه المرحلة في سياقها، وحين أراها حالياً!!
قلت: أسبانيا الأندلسية لم تكن فقط انفتاحاً وجسراً بين الحضارة العربية الإسلامية بتنوعها وحضارات أوربا القرون الوسطى، ولكنها أيضاً كانت التربة التي نشأت فيها مبادرات علمية وفقهية وحضارية غاية في الأهمية والتألق، أذكر منها أن هذه المنطقة والمرحلة علمت أوربا الحب الرومانسي!!
هذه حقيقية يعرفها كل دارس من أن مفهوم وممارسة الحب الوجداني الروحاني المتجاوز للجسدي المادي كان شيئاً جديداً على أوربا حينذاك، بينما كانت الأندلس ينكتب فيها "طوق الحمامة"، وتعيش قصص "ابن زيدون"، و"ولادة بنت المستكفي"، إلى الحد الذي اعتبره بعض المؤرخين ترفاً زائداً أدى تدريجياً إلى سقوط دولة العرب هناك!!
قلت لهم: إن كل شاب وفتاة يتعانقان في أوربا هما مدينان لأسبانيا الأندلسية، وقلت لهم: إن ما بيننا لم يكن غزواً وحرباً فقط، بل كان أعمق وأوسع وأبقى!! وأيضاً فإن أسبانيا مدخلنا الهام إلى مساحتين في المكان: أوربا، وأمريكا اللاتينية، وتلك قصة أخرى تطول.
المصريون هم الكنز الأهم لبلدهم ويؤسفني حين أرى هذا الكنز يتبدد في الداخل، ويتبعثر في الخارج!! داخلياً نعيش في ظروف غير إنسانية بحسب مواقعنا، بل هناك كتل كبيرة بالملايين تحت خط الإنسانية اقتصادياً وثقافياً وصحياً، وخارجياً لا يحب المصري غالباً أن يختلط بمصري، ولا يحب غير أن يحاول تدبير أحواله في مهجره متكيفاً مع المشكلات التي تواجهه، ومنهم من يمارس عزلة من نوع خاص يراها ضرورية للحفاظ على هويته وأصوله وطابعه المميز الذي هو غالباً عبارة عن خليط لم يتأمل فيه، ولم يراجعه إلا قليل منا في وحدة الغربة وصقيعها!!
في مدريد تقابلنا أنا وجمال وباسل وأحمد، اثنان من مصر الداخل، واثنان من الخارج يعيشان هناك أحدهما مستقر ومتزوج، والآخر لغرض الدراسة، وقد ترك زوجته في مصر، وأحياناً تقيم معه هناك. لم يكن متاحاً أمامي للسهر معهم سوى ليلة واحدة امتلأت ضحكاً وصخباً، وأحاديث بدأت ولم تنته، ومصر كسحابة تظللنا، ونسمات تحيط بنا، هواء نستنشقه، وهوى نعشقه، وأعود إليها فأجدها كما تركتها غارقة في همومها، كسول... تخلط البهجة بالشجن، ألقي عليها التحية، وأرتمي في أحضانها، وهي... تبدو... غير مكترثة!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: طعانون وسماعون/ على باب الله: نتغزل في الحرية، وكلنا عسس