في التاسعة من مساء الأربعاء كنت متواجدا في ماسبيرو -التليفزيون المصري- لتسجيل أحد البرامج الجديدة المتطورة التطويرية، ويبدو أنني كنت نسيت أنني اتخذت في أحد الأيام قرارا بأن لا أوقع نفسي في فخ مواعيد التسجيل في هذا الماسبيرو، وأن أقبل فقط بحلقات البث على الهواء حيث يلتزم الجميع بصورة عادةً مقبولة إن لم تكن مضبوطة تماما.... مثلما هو الحال في معظم القنوات التي تحترم ضيوفها خشية على سمعة العاملين فيها وسمعتها، وأما التليفزيون المصري فعادي مثل كل مصري.... عشوائية أو خواء براني وجواني وإن بدا لك أنه كأنه....! تليفزيون..
في التاسعة كان موعدنا لم أفهم لا أنا ولا الضيوف لماذا قيل لنا التاسعة... بعد دقائق من وصولي دخلت إلى مكان التصوير وسألت عن المعدِّ، وحين رآني قال لي تفضل سعادتك في قاعة كبار الزوار في أول الأستوديو... تفضلت.... لكنني بعد ربع ساعة تقريبا من دخولي تلك القاعة المكتظة... كل ضيوف التليفزيون المصري طبعا هم من كبار الزوار... ولا إيه يعني؟؟؟ حد معترض؟؟.
بعد ربع ساعة عرفت أن موعد السيد الوزير هو العاشرة من خلال حوار دار بين مندوب الوزير وبين المعد... عرفت أن كل شيء سينضبط وأنه ما دام فيها وزير يبقى تمام أكيد!... وعادي أن أعطى موعدا قبل الوزير بساعة لأكون في استقباله مثلي مثل كبار الزوار -مالئي القاعة البراح ما شاء الله- كلنا في استقبال معالي الوزير، وهُبْ... هُبْ... تصوير.. وساعة تسجيل وساعة ونصف طريق وربنا يسترها ويسهلها... وأعود إلى الزقازيق!
في العاشرة بالدقيقة أطل علينا معالي الوزير بوجهه المضيء.... كله تمام إذن أكيد وسيبدأ التصوير.... وهو ما لم يبدأ إلا بعد أن فرغ معالي الوزير من شرب القهوة في حوالي الحادية عشرة والربع... ولن أحكي لكم أكثر من أن قهوة معالي الوزير طلبت عدة مرات وتأخرت... وأخيرا قام أحد كبار الزوار بإحضارها محمولة على كفي ساعٍ في التليفزيون وقد قام ذلك الزائر الكبير بالوقوف على يدي سعادة الباشا الساعي حتى أعدَّ قهوة الوزير، وشهادة لله لقد صبر معالي الوزير كثيرا... وأما سبب تأخير الوزير ساعة وربع في انتظار التصوير فقد شرحه له المعد: "لأن الأستوديو كان يستعد بعد رحلة عمل طوال اليوم... تأخر الجزء الأخير منها وتحملنا يا معالي الوزير..." والحقيقة أن معد البرنامج كان على دراية واضحة وعميقة بموضوع الحلقة ولولا معرفتي بأنه معدٌّ من الجيل الخبير المتمرس في التليفزيون لتخيلت أنه من سكان إحدى العشوائيات حسب تعريف الحكومة، وأحسب معالي الوزير يشاركني رأيا كهذا فقد اقترح عليه مداعبا: أن يضع خططا لتطوير العشوائية التي سيجيء عليها الدور.
للحقِّ أقول لكم أن عشوائية الإسكان المنتشرة في مصر (45% من الشعب المصري بأضيق تعريف ممكن للعشوائية)..... عشوائية المباني هذه أقل بكثير من عشوائية المعاني التي نعيشها في مصر بما فينا الوزير فلا فرق هنا بين أمير وغفير... يا سلام.... دار حديث إلى جوار الوزير عن العشوائية وأثرها في الإنسان المصري.... وكادت الآراء تصل إلى أنه -الله يرحمه- صحيح في الإنعاش ولكن إن شاء الله سيقف على قدميه... ولو حتى على سبيل التفاؤل خاصة وأن التشاؤم مكروه في حضرة الوزير خاصة وهو صابر ومتحمل مثلنا مثله،......
فجأة فهمنا أن المعد سيسجل الليلة حلقتين وليس واحدة، وموعد الحلقة التي سنسجل فيها بالتأكيد بعد حلقة معالي الوزير... ويكفيه أنه صبر وانتظر واستجاب لمطلب الجماهير الذي سيطلب على الهواء في الحلقة التي سأشارك فيها لأنها ستعرض أولا... عادي طبعا لأنه وزير ولأن الوزير هو أكبر كبار الزوار الممتدين في القاعة... والحقيقة أننا عندما رأينا الأستوديو دخولا مع الوزير عرفنا أننا فعلا اعتبرنا زوارا كبارا لأن الزوار الصغار كانوا يملئون ثلاث مستويات من المدرجات الخشبية،......
خرجنا بعد ذلك أنا والزميل أ.د.أحمد عارف الذي تعرفت عليه ليلتها، وتحدثنا طويلا عن أمورٍ كثيرة أهمها ما أصاب الإنسان المصري وما أصاب كل شيء تقريبا في هذا البلد،..... وأخيرا صورنا وقلت للمذيعة أنه لا توجد دراسات معينة للآثار النفسية للعيش في العشوائيات ولكن هناك دراسات اجتماعية وهناك مصائب نراها خلال عملنا ونحن لم نقدم شيئا لأهل العشوائيات أقصد للإنسان في تلك العشوائيات إلى درجة أننا لا يحق لنا أن نطالبه بشيء... واتهمتني بالتعميم فقلت لها ما يعني أنني لست متفائلا، وطلبت أن أقول لها مثلا مرض كذا النفسي بنسبة كذا في سكان العشوائيات فقلت لها قلت ليست هناك دراسات نحتاج إلى دراسات ميدانية، فقالت لي إذن هناك قصور في الدراسات فقلت لها مثلما هناك قصور في كل شيء في مصر، ولم يكن كلام رفيقي أ.د.أحمد عارف عن حالة المستشفيات والخدمات الصحية بأقل تشاؤما مني حتى اتهم هو الآخر بالتعميم،.... والمهم خرجنا في الواحدة والنصف صباحا... وبعد ما ركبت السيارة تذكرت أنني نسيت كوفيتي الزرقاء داخل الأستوديو فرجعت لأخذها.... ولله الحمد عادت معي إلى الزقازيق.
كان علي في الصباح الباكر أن أتوجه إلى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في القاهرة، وبعده إلى مركز المعلومات برئاسة مجلس الوزراء بتكليف كتابي من مكتب مفتي الديار فضيلة الشيخ الدكتور علي جمعة لأحصل على المتاح من معلومات عن ظاهرة أطفال الشوارع في مصر، ولم يكن لأحد ذنبٌ في أنام في الرابعة لأصحو في السابعة صباحا... وكان لي في الجهاز اطلاعٌ جديد على العشوائية الجوانية التي يعيشها المصريون،........، بينما كنت أنا بحاجة إلى النوم... مع الأسف!
في يناير 2007 توجد دراسة واحدة في المكتبة نشرها معهد التخطيط القومي سنة 2004 وقامت بها الأستاذ الدكتور نادرة وهدان... وسأعود إلى التفاصيل في مدونة أخرى....... ولكن ليس شيء بعد 2004 وما أعرفه هو أن الظاهرة في تفاقم ومشكلاتها الاجتماعية وعواقبها في تفاقم ما تزال، وليست هناك معلومات أحدث من هذه الدراسة حتى الآن في الجهاز المركزي ... إلخ... عادي عشوائية براني... طلبت السكرتيرة التي استقبلتني في الدور الخامس أخرى في التليفون -يبدو أنها مسئولة بالمكتبة- وقالت لي 5 دقائق وستصل إليك من تصحبك إلى المكتبة لتطلع على الموجود... ولم أكن أعرف أنني سأنتظرُ طويلا وعند الدقيقة العشرين طلبت أن أنزل أنا إلى المكتبة ونزلت فوجدت الدراسة التي أشرت إليها، وطلبت تصويرها فقيل لي تفضل استرح وسيقوم العامل بالمهمة..... قلت كم من الوقت تحتاجون لتصوير 80 صفحة وكان الرد دقائق...
وعندما اكتملت الدقيقة 45 وأنا منتظرٌ في المكتبة سألت ما بال التصوير تأخر فقالت واحدة من الموظفات الثلاثة عبد اللطيف أصله بطيء نوعا... قلت وأين هو قالوا في الدور الخامس... فوجئت أنا أن المصعد الكهربي -وأنا أمر أمامه ولا أستخدمه عادة- قد جمع أمامه طابور موظفين، وكان مصعد واحد يعمل من خمسة، الحمد لله الذي أعطانا ما نصعد به على السلم مكبرين كفعله صلى الله عليه وسلم وصحابته علهم رضوان الله، الحمد لله صعدت واكتشفت أن للمبنى أعماق واتجاهات وأنه مبنى يضم مئات الغرف المهم أخيرا وجدت عبد اللطيف الغلبان واقف يجمع ما تم تصويره وقد أوشكا هو والموظف المسئول عن ماكينة التصوير على الانتهاء،.... وإلا لابد أن ندعمها لحضرتك بدبوسين قلت أين قيل لي عبد اللطيف معك... وسألني هل لابد من من المصعد، لأن حضرتك متعجل وهو سيعطلنا انتظاره قلت لا.
ونزلنا ونزلنا أكثر من اللازم فيما يبدو... يا سلام مطبعة كاملة العدة والعتاد والعباد تحت المبنى العتيد.... وفي الطريق اكتشفت أن الصفحات رتبت خطأ وعدلتها.. وسرنا من دهليز لدهليز ومن مستوى أرضي لمستوى أدنى..... ولما وصلت أخيرا إلى المكان الذي فيه دباسة وتكلم عبد اللطيف قائلا نحتاج تدبيسا....... ولم أسمع الباقي ولكن سمعت الحاج... حامل الدباسة يقول ما دمت قلت رئيس الجهاز إذن هات لي إذنا كتابيا منه بأن أدبس هذا الكتاب!...... حاول عبد اللطيف أن يتكلم بينما نظرت أنا إلى ذلك الرجل الذي بدا لي موظفا مصريا نماذجيا بالضبط كما أتخيل أن التاريخ يوما سيصفه في عصر العشوائية جواني وبراني التي تعيشها مصر..... بدا لي أن الجهاز المركزي... كأنه جهاز، يعني التليفزيون كأنه تليفزيون والمستشفى كأنه مستشفى والجهاز المركزي كأنه جهاز ومركزي كمان..... وهلم جرا........ وواضح جدا أن العيب لم يعد قاصرا على النظام -أقصد الـ كأنَّ نظام- العيب الآن يشمل الإنسان المصري وبعيدا عن تعاطفنا مع أنفسنا كمصريين، وعن من أهدر من ومن بهدل من ومن جعلنا خواء في خواء... بعيدا عن كل ذلك... أخاف مما سيأتي... وأولها سؤال: لو أنت صاحب مشروع ووجدت يدا عاملة أو حتى إداريين بأسعار أرخص وأداءٍ أكفأ؟ من الصين أو كوريا مثلا...؟؟؟ هل ستفضل الموظف المصري؟....... لا عزاء للمصريين! متى يدركون كم الخيبة التي أصابتهم فما أبقت متى؟؟ والسؤال مفتوح للمجانين.
الجمعة 26/1/2007
ويتبع >>>>>: عائدا من ماسبيرو ذاهبا للجهاز مشاركة
اقرأ أيضاً:
بين الهلال والأجندة كل عام وأنتم بخير / أحتاج من يقرأ..... بشدةٍ.. وإلا!