على باب الله: نتغزل في الحرية، وكلنا عسس
أمامي في الصحيفة اليومية عنوان يقول: وزير العدل يرفض توضيح موقف من تصريحاته عن القضاة، ويطلب اسم القاضي الذي طرح السؤال!!
والقصة أن السيد المستشار وزير العدل المصري كان قد أدلى أمام مجلس الشورى بتصريحات وكلمات تضمنت غمزا ولمزا حول مستوى تدريب وكفاءة القضاة في مصر.
أصداء هذه التصريحات كانت واسعة إلى حد ما، وذلك لأسباب متعددة بعضها لا يخفض على أي لبيب، وأنا أنقل عن الصحف التي قرأتها، وليس عذري مصدر مباشر! ثم الحاصل فيها يبدو أن لقاءاً جمع الوزير مؤخراً ببعض القضاة فطلب أحدهم توضيحاً منه حول ما هو منسوب إليه من تلك التصريحات، ويبدو أن الوزير لم يكتف بتجاهل السؤال، ولكن سأل عن اسم القاضي الذي سأله!!
بالأمس كنت عائدا من الزقازيق بالقطار، وتصادفت جلستي إلى جوار "رئيس محكمة"، وتحدثنا عن أمور كثيرة منها أوضاع العمل والإعارات، والتمييز بين الزملاء في مجال عمل القضاة، حيث يبدو أن الكفاءة ليست هي معيار الاختيار أو الترشيح أو التصعيد في هذا السلك أيضاً!! تقارير الأمن لها دور كبير!!
ووصلتني رسالة من صديق يعمل في مجال الإنتاج الإعلامي والفني، وهو من هواة المسرح منذ كان طالباً في الكلية، وقد ترك مجال دراسته الأصلية، وتفرغ للفن قائداً للفرقة تلو الفقرة، ومحركاً للفكرة تلو الفكرة!!
وقبيل افتتاح مسرحيته الأخيرة نشرت إحدى الصحف اليومية، وهي تزعم أنها مستقلة، تحقيقاً يربط بين مسرحية الزميل تلك وما أسمته الصحيفة "المسرح الإسلامي"، بل وزادته من الشعر قصيدة حين رسمت صلة تصورتها بين هذا الجهد الفني، وعمل جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما من شأنه ليس تعويق المسرحية وعرضها فحسب، ولكن أيضاً وضع الزميل في دائرة الاتهام!!
اتصلت به لأقف على حقيقة ما جرى، فحكى لي ما أسلفت تواً، وأضاف أن موظفي الرقابة الرسمية بالدولة لم يجدوا في المسرحية ما يستوجب منعها، وبالتالي فإن الأمن أيضاً كان له نفس الموقف، وبدأ العرض فعلاً، ولكن تحت هاجس وقفه في أية لحظة، وبحضور رقيب كل ليلة ليتأكد من عدم الخروج على النص، وأن كل شيء تمام!! هل يفكر المبدع في الجمهور أم في الرقيب الحقيقي أم المتطوع؟
تذكرت وتأملت وغرقت في التداعيات حول هذه الأمة العجيبة التي أعيش وسطها، الأمة التي يطالب بعض أبنائها بالحرية، ولكنهم، وغيرهم أكثر منهم، لا يترددون أن يلعبوا وظيفة المرشد الأمني، أو المخبر البوليسي حين تدعو الحاجة النفسية المريضة إلى ذلك!!
تسمع من كل ناعق وناعقة غزلاً متواصلاً تظن وراءه عشقاً صادقاً للحرية، ثم في لحظة واحدة تسقط الأقنعة لتجد الكل مخبرين وعسس دون أن يطلب منها أحد ذلك!!
ولقد تعاملت أحياناً مع ضباط حقيقيين، وبعضهم في أمن الدولة، ذلك الجهاز الذي تُرَوَّج عنه الأساطير، وتخافه الشوارب، والحقيقة أنني وجدت عمقا ونضجا ورغبة في عدم توسيع دائرة التدخل في شئون الحياة العادية للناس, ولكن الناس يصرون!! يا الله كم يؤدي هذا إلى إرباك وهدر؟
انظر حولك لتكتشف أن أغلبية المحيطين بك مجرد عسس "متطوعين", وإنهم مجرد كتبة تقارير خائبة، مجرد مسوخ فاتهم العمل رسمياً في أجهزة الأمن، فتطوعوا ليكونوا بوليسياً على الناس يفتشون في أسرارهم، ويتحرون كل صغيرة وكبيرة عنهم!!
يتخيلون تفويضاً من الله، أو من الناس ويتقمصون دور الإبلاغ لمن حولهم، عما وعمن حولهم، عما قرروا أنه جرائم، وبما قرروا هم وحدهم أنه دورهم لإنقاذ البشرية، أو أمة الإسلام، أو الأمن القومي، ولا بأس من محاولة تدميرك أو اغتيال سمعتك وصداقتك!!
الصحيفة اليومية لم تكن تنشر تقريراً عن "المسرح الإسلامي"، كانت تقدِِّم بلاغاً، والسيد وزير العدل طلب معرفة اسم القاضي الذي سأله لأغراض التنكيل والتأديب، وكل دائرة حياة أو عمل أو نشاط في بلادنا تضم هؤلاء العسس المتطوعين، وكتبة التقارير للسلطة أو الناس، وأحاديثنا غالباً هي خليط من الوشايات الاجتماعية المنحطة، والبلاغات الملفقة أو المدبجة إلى من يهمه الأمر، وإلى الجحيم يا حرية، وإلى الجحيم يا إنسانية، ويا إنسان!!
قال رسول الله صلى عليه وسلم:"الغيبة ذكرك أخيك بما يكره، قيل يا رسول الله فإن كان فيه ما أذكر، قال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" صدق صلى الله عليه وسلم.
والغيبة والنميمة تحولت في حياتنا إلى نظام اجتماعي، وممارسة يومية، ومرض مزمن ينحر في نفوسنا، وشبكات علاقاتنا، تحولت إلى عادة، بل ويحسبها البعض عبادة!!
[هواياتنا تقديم البلاغات، مسوخاً للاستبداد أمسينا، خبزنا الإشاعات، وسمر ليالينا الوشايات، وترويحنا وترفيهنا الغمز واللمز، والخوض في الأعراض، وتقديم البلاغات!!
واحتكرنا لقب "الأخسرين أعمالاً" لسنوات تلو سنوات!!
اللهم اكشف عنا السوء والبلاء، وأصلح أحوالنا أجمعين.
31-1-2007
واقرأ أيضًا:
على باب الله: تأملات أندلسية/ على باب الله: بيداء الوحدة والحرمان