سافرت إلي نقادة وهي بلدة صغيرة بمحافظة قنا بصعيد مصر للمشاركة في برنامج الزيارات للمؤتمر الدولي لتراث إقليم نقادا وقوص الذي نظمته مؤسسة (icom) وهي منظمة دولية مهتمة بالتراث المتحفي... ستلاحظون مبدئيا أنني قد كتبت نقادة بالتاء المربوطة لكنها تكتب أيضا بالألف أما أهل الصعيد وأهلها أنفسهم فينطقونها نجادة... على طول الطريق من الأقصر وخلال أيام الزيارة في البلدات المختلفة وجدت مساحات شاسعة من الأراضي المزروعة بقصب السكر فهذا هو موسم حصاده فقفز إلى ذهني على الفور سؤال "لماذا إذن نستورد السكر؟" وكانت أول الزيارات لمنطقة بدائية تسمى طواقي فرعون كشف المنقبون والأثريون فيها بقايا لمعبد فرعوني مخصص لعبادة الإله ست التوأم الشرير للإله أوزوريس حيث كان الإله المحلي لإقليم نقادة في عصر الدولة القديمة، والهرم المنقوص للملك هوني الذي يسود اعتقاد بين الأهالي بقدرته على فك العقم، وعلى مرمى البصر شاهدت بيتا مبنيا بالطوب اللبن أمامه براميل كبيرة هي أيضا من الطوب اللبن تسمى صوامع وتستخدم لتخزين الغلال وفوق ذلك البيت البدائي لمحت طبقا صغيرا لاستقبال القنوات الفضائية فتذكرت نظرية صديقي الأثير بأن أحدا لم يعد يشاهد القنوات المحلية، فأطرقت ببصري عند موضع قدمي فوجدت شقفا من الفخار الأثري شرح لي المتخصصون أنواعه وإلى أي عصر يعود فتفكرت بأني قد لمست في تلك اللحظة قلب مصر وخلطتها التي ستظل دائما سر قوتها وروعتها.
ولأن موضوع المؤتمر هو الخشب والأثاث واللاكر (الرسوم والدهانات على الخشب) نزلنا إلى بلدة نقادة التي تتميز أبواب بيوتها بالكتابات والرسومات المؤرخة بأوائل القرن الماضي فسعدت لكون يد المستثمرين الفوضويين لم تمتد إلى ذلك التراث البديع وكذلك مروجو الأسمنت لكني حزنت على الفقر المدقع الذي يرزح تحته أهلي وناسي أصحاب الحرفة المصرية القديمة وهي النسيج اليدوي.
ففي كل بيت نول فرعوني كالذي رأيته بالمتحف المصري بميدان التحرير تعمل عليه النساء والرجال والأبناء داخل البيوت... صحيح أن مؤسسات أجنبية قد مولت مشاريع لحماية تلك الصناعة من الاندثار لكن أن تجد براميل على باب كل بيت، تكتشف أنها تجميع لمياه الصرف فهذا يعني عدم وجود مشاريع صرف صحي. لكن خوفي لو تدخلت الدولة أن تزيل تلك المتاحف الحية، لذا أدعو المهتمين بالآثار والمحافظة على التراث ومن جاءت على ذهني الآن هي الدكتورة منى زكريا تلك المرأة المصرية حتى النخاع والتي أعلم بعض مشروعاتها السابقة في القاهرة القديمة لتقدم مشروعا متكاملا لتطوير حياة هؤلاء المصريين المنتجين لفنون مميزة مهددة بالانقراض فهي تمتلك رؤية متكاملة لا تعلي الأثر على حياة البشر... وعدت إلى القاهرة وأنا أردد عبارة منقوشة على باب قديم في نجادة "رأس الحكمة مخافة الرب"...
اقرأ أيضاً:
حواديت المشاوير داخل تُكسُة القاهرة/ لقد خلقنا الله أحرارا