كنت في برنامج "العاشرة مساءاً" أتحدث عن "سفاح المعادى"، وجاءت الرسالة المتوقعة ممن يقول أن العيب في أزياء البنات، وأن "الاحتشام هو الحل"، قلت ما معناه: أكيد من تنزل للشارع ببذلة رقص فعلاً ستكون مثيرة أكثر من غيرها، وهكذا فأن كل مساحة عري تستدعى تحرشاً أو تثير استفزازاً، ولكن اختصار الأمر على هذا النحو هو تسطيح وخلط، لأن التحرش لو كان مجرد رد فعل على الملابس المبتذلة، وإذا وافقنا على هذا المنطق فإنه يكون ارتداداً إلى منطق حيواني يقبل بمجرد الانفعالات غير المعقلنة، وهي من بديهيات الفروق بين الإنسان وغيره من الكائنات!!
وهذا أيضاً كمنطق معيوب يخلط بين أهمية أن نتفق على حدود معينة أو متوسطة أو معيار لما هو معقول من الأزياء، ومن المهم الاتفاق على ذلك بعد أوسع حوار اجتماعي ممكن، ولكن هذا شيء والإجرام والاعتداء على أنثى، أو هتك عرضها، والنيل منها شيء آخر، فهذا الأخير هو جريمة يقوم بها مجرم منحرف أو مريض نفسياً، وهكذا ينبغي عقابه أو علاجه أو الأمران معاً، وهكذا ينبغي أن نسمي الأشياء بأسمائها، فالجريمة جريمة!! وبعض الضحايا محجبات كما نعرف، لكن هناك أبعاداً أخرى لم أذكرها بتفاصيل في الحلقة لضيق الوقت، وربما لأنها لم تكن قد تبلورت في ذهني تماماً وقتها. وقد شاهدت شباباً يتندر ويتهكم ويعاكس بعض النساء في الشارع بأن السفاح سيلاحقهن!!
ورأيت آخرين في شبه مظاهرة صغيرة ضاحكة يمجدون السفاح غناءً، وكأنهم يشيدون بفعله، ويحتفون بما يفعله بالبنات!! وغرقت في التأملات التي لم تنقطع منذ حادثة التحرش في وسط البلد.
لا أحسب أن" سفاح المعادى" أو غيره من أمثاله، ولا أحسب أمين الشرطة الذي مزق ملابس فتاة في غرفة الأمن بمحطة مترو الأنفاق من عدة أيام، لا أحسب هذا أو ذاك إلا مجرمين، ولكن أتأمل في الإعجاب والحبور، ولو من باب التنكيت، فهو لا يخلو من دلالة!!
أتأمل في تسلسل الحوادث وتكرارها، وأتأمل في ردود الأفعال التي تبدو متنوعة ومختلفة رغم أنها متفقة على الاختصار المخل، والخلط الضار بالفهم والمؤدي إلى التشويش!! فمثل القول بأن ملابس البنات هي السبب قول آخرين أنها حملة على حركة المرأة في المجال العام، وهؤلاء يضعون ملابس الفتيات في وسط سياق ومنظومة ما يتصورونه من انحلال وتسيب عام، وضياع للأخلاق... إلخ، أما أولئك فيضعون هذه التحرشات في سياقات وموجات المد الأصولي الداعم لخطاب كراهية المرأة، وتحميلها تبعات ما يجري من فشل وتخلف وإحباطات عامة، وفساد وبطالة.. إلخ!!
لكنه نفس المنطق الساذج المريض الذي يشيع الآن مثلاً في الخطاب الحكومي تجاه الإخوان المسلمين حين تنسب إليهم المصادر الرسمية، وتربط بينهم وبين كل نقيصة أو جريمة أو مصيبة تحصل في مصر من غسيل الأموال إلى سفاح المعادي إلى الجاسوس الذي ضبطوه مؤخراً!! إنه نفس الهذيان والهراء!! نفس الغفلة والتغافل والاستغفال!!
فلا أزياء الفتيات في مصر ـ على العموم ـ يمكن وصفها بالعري، ومن يقولون هذا لم يزوروا بلداناً عربية أخرى مثل تونس ولبنان، وحتى سورية، ليشاهدوا ماذا ترتدي البنات!!
ولا ما يسمي بالمد الأصولي السلفي يمكن أن يكون مبرراً كافياً أو دافعاً لمجرمٍ أو مريض أن ينال من أنثى على النحو الذي نراه!!
وقرأت أن حملة بصدد الانطلاق ضد التحرش الجنسي، كما بدأت بعض الفتيات يتدربن على الدفاع عن أنفسهن، ولا مانع من أن تتعدد مستويات التحليل، واجتهادات الحل، وزوايا النظر والتأمل وتسليط الضوء والتركيز، وحتى حين أرى أن هذا الاقتراب أو ذاك ليس بالعمق الكافي فإن هذا لا ينزع عنه كل مصداقية، إنما أرى أن هناك ما هو أعمق وأولى بالنظر.
أرى أن هناك جذراً خطيراً للموضوع يبدو مهملاً أو لم يأخذ حقه من التغطية، ألا هو "الحرمان"!!
إذا فهمنا أن هناك ملايين من الشباب والفتيات، ملايين من الرجال والنساء في مصر يعيشون حرماناً عاطفياً، ووحدة مشاعر، وغربة رهيبة موحشة!! لدينا أزمة علاقات إنسانية، وهي أزمة طاحنة!!
ملايين لدينا بلا صداقات عميقة، وبلا شريك من الجنس الآخر، بزواج أو مشروع زواج، ولا يبدو لديهم أو لديهن أي أمل حقيقي بانفراج قريب لهذا الوضع!!
هذا فضلاً عن الكثيرين من المتزوجين والمتزوجات في نفس الوحشة والوحدة والغربة والحرمان!! وهم المتورطون والمتورطات فيما سبق لي وأسميته "زواج بلا علاقة"!!
والذين يأخذون بظاهر الأحوال والأشكال ينخدعون وينساقون في ترديد المقاولات والكليشيهات الجاهزة حول: الانحلال والتسيب والفوضى، وأن العلاقات بين الجنسين قد صارت في بلدنا سداحاً مداحاً، وقلة من ينظرون ويفكرون ويتعمقون ليكتشفوا زيف أغلب العلاقات، وعدم قدرتها على إشباع المشاعر والأحاسيس والاحتياجات العاطفية لأطرافها، هذا فضلاً عن الذين لا يجدون أصلاً علاقة، ولا شبه علاقة، ولا مشروع علاقة!!
طنين الكلام عن الحب هو مجرد طنين، ومجرد كلام، والحقيقة أن مساحة التواصل الإنساني عندما تعاني من عوائق وتعثرات، وعلل وفشل، وأمراض ونقص في نواحي متعددة، والملف بأكمله غائب عن الانتباه والنقاش بسبب التمرير والخلط والتسطيح الذي نتعامل به مع كل شئون حياتنا، والحصاد هو ما نرى!!
وصحيح أن "الوحدة خير من جليس السوء" لكنها قاسية ومؤلمة، أراها وأشعرها في عيون وأنين من يعانون منها، إنها مثل الكي لكنها ليس دواءاً كما عند العرب، بل الإنسان أكثر ما يكون توتراً وعنفاً وقلقاً واكتئاباً وإحباطاً، وبالتالي يتشوه ويتوقف عن الإبداع والإنجاز، ما لم يشعر أنه محبوب ومرغوب، وأن هناك من يعبأ به ويهتم بأمره، ويدعمه ويسانده في مواجهة تصاريف الحياة، وضغوط العيش المتزايدة!!
لقد أراد الله للمسيح عليه السلام أن يعيش الوحدة والألم والحرمان ليكون نموذجاً لهؤلاء الذين يغرقون في الملذات والشهوات، ولو على حساب حياة أرواحهم، ومصيرهم في الدنيا والآخرة، وأفهم أن بعض البشر قد يختارون نفس الأسلوب أو النمط أو شكل الحياة لأنهم يتصورون أن هذا هو الطريق إلى الله بحق، أي عبر الحرمان والوحدة والألم.
أفهم هذا، وطبعاً من حق كل إنسان أن يختار لنفسه ما يحلو له، ولكن أن يُفرض على الملايين اختيار المسيح أو أن يكونوا رهباناً يقضون على حياتهم مضطرين في الوحشة والوحدة والألم، فهذا ما يوجعني!! البشر بدون علاقات حقيقية يعانون بحق!!
نحتاج نحن البشر إلى بعض العزلة ـ نعم ـ وبعض الوحدة، وبعض الألم، والحياة لا تحرمنا من نصيبنا في هذا أو تلك، أما أن نعيشه هكذا مضطرين عاجزين عن الخروج منه أو تغيره، فهذا وضع بائس ليس قدراً إلهياً، ولكنه استسلام لفشل سياسات وأجهزة دولة، وتعفن ثقافة مجتمع يرتضي الدونية والتخلف وسوء العيش يحسبه زهداً، وتقرباً إلى الله، ومحافظة عل القيم والتقاليد!!
مجتمع عاجز عن مواجهة الأسئلة والتحديات الحقيقية!!
هذا الحرمان هو شيء، وبدلاً من اختراقه بشكل فردي، وبمغامرات ومجازفات واندفاعات خارج نسق القيم السليمة الأصلية لنا، بدلاً من هذا وذاك نحتاج إلى نقاش حقيقي لإدراك أبعاد هذه الهاوية التي تتجلى كل حين في حادثة جديدة يندفع فيها واحد أو مجموعة من المحرومين نيلاً من فتاة محرومة هي الأخرى ـثم نندفع نحن باتجاه تفسيرات لا تفسَّر ولا تفيد كثيراً!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: نتغزل في الحرية، وكلنا عسس/ على باب الله: العزلة طبعاً: هل هناك اقتراحات؟!