في فقه المخالطة بعد زيارة مصر
ملامح مجتمعنا باتت تتغير، الخصوصية التي يتحدث عنها البعض أصبحت ماضيا، لست أزعم أن الحال الآن أسوأ أو أفضل، فمثل هذا التقييم لا يمكن التحدث عنه جزافا. في جدة لم تكن الفتيات قبل سنوات يجرؤن على الخروج وهن يضعن غطاء الرأس على أكتفهن، كاشفات لشعورهن، لا أقول إن الحجاب انحسر، لأن الحجاب قبلا كان سلوكا تفرضه قوانين المجتمع، وبالتالي كانت هناك فتيات يلبسن الحجاب التزاما بقوانين المجتمع فحسب، بينما لا يلتزمن به في التجمعات الأسرية الخاصة أو في خارج البلاد، الآن لم تعد القوانين صارمة، الذهاب إلى أي كافيه في شمال جدة يبين ذلك بوضوح، تجد المحجبات وتجد غير المحجبات وكلهن سعوديات.
ليس ذلك فقط هناك مظاهر جديدة أيضا، الاحتفال بأعياد الميلاد مثلا بشكل معلن في الكافيه العائلي، لم يكن معروفا من قبل بالصورة الحالية، بل إن التعبير عن الحب بين المحبين بدأ يتخلى عن تكتمه، فتلامس الأيدي قد تشاهده عيانا، الحواجز الخشبية بدأت تتوارى، هذا موجود نعم لكن بصورة ليست متفشية كما هو في عدم الحجاب.
كلامي هذا نتيجة مشاهداتي، وليس ناتج عن دراسات، ومما يجدر الإشارة إليه أن مسألة الخروج بلا حجاب (تلبس العباءة وتوضع الطرحة على الكتف) هو في الطبقة فوق المتوسطة غالبا ولست أعمم هنا. أنا هنا لا أقرن بالطبع بين عدم الحجاب والسلوك غير الملائم، بالعكس قد تكون الفتاة غير المتحجبة ذات مظهر أكثر جدية واحتراما، من متحجبات ذات سلوك طائش.
في مجلة تعنى بإظهار المناسبات الاجتماعية، من الممكن أن تقتني على هاتفك النقال صورا لفتيات سعوديا محجبات وغير محجبات، كل صورة تحمل رقما يمكن من خلاله أن تحصل عليها. تغيرات جديدة تحتاج إلى رصد أكثر دقة وتعمقا، وخطاب ديني يواكب تغير أحوال الناس، وممارسة واعية تحفظ لغير الملتزمين بالأحكام الظاهرة القطعية حقهم في الاختيار. أقول الأحكام الظاهرة للدين، لأن أخلاقيات الدين مثلا يتشارك فيها الملتزمون بالشعائر الظاهرة وغيرهم، وقد يفوق غير الملتزمين بالشعائر الظاهرة الملتزمين بها في سلوكهم الأخلاقي أو الالتزام بشعيرة كالصلاة مثلا.
كيف سنطور تعاملنا مع (غير الملتزمين بالشعائر الظاهرة) هل سنظل على أسالبينا القديمة في الوعظ أو الانسحاب عن مجالسهم، أم الأمر يحتاج منا إلى فقه للمخالطة، وأن نعيد قراءة تراثنا الشرعي نصوصا وفقها، في ضوء التغيرات الجديدة. وقد قرأت مقالة للكاتبة صافيناز كاظم نبهتني إلى هذا المعنى، وضرورة أن نتدارس فقه المخالطة، إذ في مقالة لها ضمن كتابها (تاكسي الكلام) تحدثت عن حضورها لعرض مسرحي في دار الاوبرا يمزج فيه المخرج وليد عوني بين إحدى المقطوعات الكلاسيكية وبين مقامات نصير شمه عازف العود العراقي الشهير.
تقول صافيناز أنها لم تستطع تقبل الرقص الحديث الذي رافق الموسيقى، وأنها لا تجد فرقا بينه وبين الرقص الشرقي بما يحمله من دلالات جنسية غليظة، رغم أن الرقص ليلتها لم يكن مقززا، لكنها لم تطرب لتلك الزوايا الحادة في التعبير البدني للراقصين، تقول صافيناز: "أدرت ظهري إلى خشبة المسرح ليكون القمر البدر في وجهي وسمعت الموسيقى وحدها، فأحسست بالجمال الذي يناسبني اختيارا واحتياجا".
كيف نتواصل مع من يخالفنا فكرا لا سلوكا فقط، هذا فقه لم نتعلمه بعد مجتمعيا، كنت أكتب في موقع (مجانين) للصحة النفسية وهو ذو توجه إسلامي، وإذا بي أفاجئ ذات يوم بمقالة منشورة في الموقع للأستاذة بثينة كامل الإعلامية المعروفة، تذهب فيها إلى أن الحجاب مظهر من مظاهر التمييز السلبي، فاجأتني المقالة وكدت اتصل بصاحب الموقع ومشرفه الدكتور وائل أبو هندي أعاتبه على نشر هذه المقالة التي تهاجم الحجاب، ثم توقفت متأملة إلى نفسية الإقصاء التي توجه عقلي، عندها بدأت في كتابة تعليق على كلامها وحوار وصفته صديقتي الكاتبة (داليا يوسف) بالهادئ، وتعجبت من هذا الهدوء، أذكر أني قلت لها لم نتعود هنا في السعودية على حوار المخالفين لا سيما في قطعيات الدين، نحن نحتاج فعلا إلى تعلم ذلك، ولست أدري فعلا إن كان هدوئي هذا هو الصواب، لكن لماذا نتشنج ونحن نعرض ما نعتقد أنه حق، ولعل مثل هذا الهدوء يكون أكثر نفعا من مقالة حادة.
ويتبع >>>>: قبل المداولة: في فقه المخالطة2
واقرأ أيضاً:
السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة / غربة وألفة / الحزن الحر