تمر في حياتي أحداث عجيبة، ويعبر فيها أناس أعجب، بحيث أرى النفوس والعقول عارية عن كل قناع أو رداء، أرى الإنسان في تعثره وتلعثمه، في تهربه من أبسط مسئولياته، في انحنائه تحت الضغوط، وتقديمه للتنازلات بلا مقابل، في عطش لأي معنى أو جدوى أو قصة تجعله شيئاً مذكوراً أمام نفسه، وحبذا أمام الناس، في فراره من الخواء، ولو إلى الأذى أو الجحيم!!
أرى من يتردى باختياره، ومن يحاول أن يتماسك ويحترم نفسه، وينقذ البقية الباقية من احترامه لذاته.
أرى "اتق شر من أحسنت إليه"، وأرى آيات الله في وصف البشر وتراكيب وتضاريس دواخلهم، وأرى الأمثال التي علمتني جدتي عن مفارقات العبث الإنساني وحماقته!!
أري جلد الفاجر وعجز الثقة، أري الانهيار والفوضى التي نعيشها، وبقية مكونات مناخ داعم للفساد والابتزاز والسقوط الإنساني والحضاري، وأرى بصيص النور هنا وهناك في نفسي كهوف الظلام، ولكن متوارية تحتاج إلي بصر حاد في الرؤية، وبصيرة نافذة في الرأي والإدراك حتى تلمح شيئا باهتا يلمع وسط أكوام القمامة.
والعجيب أن هذا الشيء بداخلنا جميعا، لكن أغلبنا يعاقب نفسه والآخرين بدفن أفضل ما عنده، وإبراز القبيح فتمتلئ الآفاق بالعفن!!
ولقد اعتادت أذناي على سماع المرثيات مثلما كانت الجدَّاتُ يُعَدِّدْن –من العديد– وهو شعر حزين بليغ كان يقال في الموتى، ولكنه يكاد يندثر، ويصبح أثرا وتراثا وتاريخا!!، والمرثيات التي أسمعها هذا الزمان تنعي الأخلاق والأمل وكل جميل ومشرق ومستقبل!!
وتعمى الأبصار والبصائر، والقلوب التي في الصدور عن بصيص النور بداخلنا، ويزداد الطين بلة لأن أحدا لم يعلمنا كيف نحارب الظلام ونحاصره، وكيف ننشر النور، فصرنا مثل كائنات الأعماق البحرية نستسلم للركود، ولا نعرف سوي العمى!!
كنت أكتب ورقة لمؤتمر عن العلاج بالقرآن فلمع في رأسي معنى عن مدخل من مداخل علاجية القرآن هو ما يسمي بالعلاج "البين شخصي"، وتقوم فكرته أساسا على إصلاح علاقات الإنسان بمن حوله، بوصف العلاقات من أهم المؤثرات في حياة كل منا، ولأن الإنسان كائن اجتماعي ما ينفك محتاجا إلى غيره، ناقصا إلا بالتواصل معه، متأثرا إذا افتقد للأنس والحب والاهتمام!!!
وتأملت في أن القران أولى عناية فائقة لما يمكن أن أسميه "ذات البين"، ويرسم خطة وطرقا لإصلاح ما بين الإنسان وربه، وما بينه وبين نفسه، ثم وأيضا ما بينه وبين الناس، ويهتم أيضا بالعلاقة بين المؤمنين وغيرهم، بين الرجال والنساء، أي أن الإسلام كله يهتم جدا بمسألة العلاقات، فهو يبنيها على أسسٍ متينة ابتداءً، ويصونها دورياًّ ويجددها، ثم يرسم صورةً لعلاج ما يعتَلُّ منها، ويجعل من إصلاح ذات البين قربي كبيرة لله سبحانه، وبالمقابل ينتقد إفساد ذات البين، ويسميه الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-:"الحالقة"، ويردف: لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين!!
تأملت فيما يفسد ذات البين وسرحت فيمن يجعلون هدفا لحياتهم أن يفسدوا ما بين العبد وربه، أو بينه وبين الخير والنور بداخله، أو بينه وبين الناس، أو من يفسدون بين المذاهب وبعضها، وبين الأديان وأتباعها، وبين الأمم، ورأيت بعضها فخوراً بكونه محارب مرتزق في جيوش الظلام، ورثيت لمن يمارسون هذا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!
وتمنيت أن نعود إلى إصلاح ذات البين، إلى أن نكف ألسنتنا وأقلامنا وحواسبنا عن الخوض في الأعراض، وتداول المنكرات والفواحش، ونشر العمى والظلام!! تمنيت أن يفيق الغافلون وينتبهوا.
تمنيت أن ينفر من بيننا من يسعون لإصلاح الإنسان على نفسه، ومصالحته مع ربه، وإصلاح ما بين الناس والأمم، ويرن في أذني طلب زميلتي مني أن أصلي وأدعو معها أن يحل السلام على البشر على الأرض ومن فيها، ووعدتها، وأفعل!!
واقرأ أيضًا:
العزلة طبعاً: هل هناك اقتراحات؟!/ على باب الله: وجهاً لوجه