يعجبني الغوص في أعماق الكلمات.. ويأسرني تدفق اللآلئ عند الغوص في "الأمومة". وأحب أن أمسك بالمرآة وأتأمل قسمات وجهي التي تجددت وتحددت منذ 11 عاماً وأردد أنا "أمّ".. ثم أجلس إلى نفسي أتأمل المسمى وأتذكر أول مرة سمعت فيها "ماما"، أفتش عن مؤهلات المسمى الذي أضيف إلي باستحقاق إلهي، وأبحث في إنجازاتي فيه ربما استكمل نقص سيرتي الذاتية المرفقة ب"أمومة" وأعدّل في مساراتي.
ألغي ذاتيتي في الأمر وأتأمله معنًى مجرداً فأجدها أرضاً طرحت من البذور ثماراً، ومن ذبذباتها صنعت أفكار إنسان وكنهه وشخصيته ونفسه.. بيئة متكاملة كونت رجالاً ونساءً.
أتعمق في تأملاتي فأجدها "حــــــــالة" نعم حالة خاصة جداً حالة لا تنتهي على عكس كل الحالات، حالة من الارتقاء والاحتضان.. حضن يتلقفك جنيناً ثم رضيعاً ويظل الحضن مهموماً بهمك أبد الآبدين.. حضن يتألم عندما تخط سنة الحياة في النمو الجسدي شارباً على وجه الصغير، فما عاد يستطيع أن يحتضن كما كان يدمن الفعال.. ويظل الحضن في اشتياق للحضن الأول والضمة في الأحشاء.. فليس لضمة "الضنا" مدى ولا منتهى ولا مكان.
حصري ماركة أمومة
وفي أثناء التأملات ومن أحد الأركان الخاصة في منظومة المعنى يتقافز كائن جميل اسمه "الحب غير المشروط" يلاحقني بالدليل والحجة من سير خاصة لكل الأمهات منذ بدء الخليقة إلى ما شاء الله.. إنه حصري وخاص للأمهات.
ولأن الأمومة تعيش في كبد الحياة فإن المدخلات لا تخلو من القساوة والنكران المجتمعي والإنساني والمادي، لا يخلو الأمر من الأحزان والانكسارات والمعاناة واللامبالاة، ولكن الجهاز الحساس داخل الأمومة لا يتعامل مع هذه المدخلات بمنطقية أبدا فتتشابه المخرجات.. كلا.. إنه الجهاز الوحيد في الكون الذي من الممكن أن تدخل له حجراً فيخرج لك ورداً وابتسامة و.. حضن!
حضن يتخطى كل متاعبه ومشكلاته لأجلك.. لأنك أنت هناك علامة مضيئة في نهاية نفق العيش، أنت تنتظر وأنت عنده تستحق، المصلحة العليا المعتبرة هي مصلحتك فأنت للحضن وطن.. وهو لك أيضا وطن في علاقة تبادلية ندر أن تجدها. وعندما تطحنك الأيام لا تجد غير هذا الحضن فيقيك من غوائل الزمان كما تقي صنائع المعروف مصارع السوء!
ليس هذا وحسب بل وهناك أيضاً "عَرض" فهذا الحضن يمنحك دعوات مستجابات ليس بينها وبين الله حجاب.. هذا الحضن يا أصدقائي لا يمكن أن تعبّر الدراهم أو الريالات أو الدولارات عن وجوده بهدية في يوم في شهر في عام.. فهو مفتوح طوال العمر، لا يغلق للتحسينات وليس له أوقات للراحة!
من يعدم القاموس؟
والعجيب والمثير للأسى أن هذا الحضن نفسه هو المهان رقم "1" في كثير من مجتمعاتنا العربية وخاصة في المعارك بين الشباب "الذكور" إلا من رحم ربي، مادة للهزار وللسخرية وإظهار الجرأة، وبالتفاتة بسيطة واحدة من نافذتك أو في شارعك أو حتى في فيلم عربي تستطيع أن تسمع فيها عقوقاً لسانياً خادشاً للإيمان والآذان والإنسان، قاموس شتائم الأمهات يحتاج إلى من يلقي القبض عليه ويعدمه شنقاً أو حرقاً أو غرقاً أو حتى رمياً بالرصاص!
وأخيراً لا تدعوا أحضان أمهاتكم تئن تحت وطأة الظروف والانشغال ومعارك الحياة التي لا ولن تنتهي، لا تسمحوا بأن يعلو صوت الأنين بطول البعاد ولوعة الانتظار وتسويف الاحتضان، لا تسمحوا للشراسة الإلكترونية أن تسرق منّا أحضان أمهاتنا.. فغداً ستئن أحضاننا نحن شوقاً إلى أحضان أمهاتنا ولكن.. هيهات!
قوموا إلى أمهاتكم يرحمكم الله.
واقرأ أيضاً:
ارفعوا أيديكم عن ابنتي! / ذكرياتي مع الحلوة / اعترافات قهرستانة مصرية!