(1) الجندي الواقف أمام كشك المرور في مدخل شرم الشيخ من ناحية الطور ليس عنده فكرة، ومع ذلك هو يقوم بعمله خير قيام، تماما مثل كثير من الرؤساء والوزراء الذين ليس عندهم فكرة، ومع ذلك يقومون بعملهم خير قيام، ذلك في البلاد لا يحتاج فيها هؤلاء إلى مثل هذه الكماليات التي يقال لها "سياسة"، يمارسونها كهواية في أوقات الفراغ. قالت له: "ومن قال إنهم يقومون بعملهم خير قيام؟" قال: "هم الذين يقولون". قالت:"ولماذا نصدقهم؟"، قال: "ولماذا نكذبهم؟". قالت: "أنا عندي الدليل على صدقهم"، قال: ماذا؟" قالت: ما داموا يبقون في كراسيهم كل هذه المدد، بكل هذه الثقـة، فلابد أنهم يقومون بعملهم خير قيام". قال: "الله ينوّر!!!!"
(2)
أخذ الجندي يتطلع في وجه قائد السيارة بعد أن سابت مفاصله من طول العربة واحمرار وجه السائق صحة وثراء، ثم إن السيارة ذات ثلاثة أرقام "ملاكي القاهرة"، يا رب سترك، سأل الجندي بصوت هادئ: "مصريون؟" ، أجاب الرجل : "بالصلاة على النبي"، فوجئ الجندي، مّنْ هذا الوجيه الخواجة ابن البلد معا؟ كلمة السر (المرورpass word ) هذه لا تصدر إلا من مصري، ابن مصري؟ حين تتعقد المسائل هكذا لا مفر من الاستعانة بتوجيهات الرئيس، تماما مثلما يفعل الوزراء. نظر الجندي إلى الأمين يستنقذه، فنظر هذا بدوره إلى حضرة الضابط القابع داخل الكشك من الحر، أحنى الضابط رأسه إلى أسفل، فالتقط الأمين الإشارة، وأشار بيده بالتمرير، فاقترب الجندي من الرجل الوجيه ابن البلد، وفجأة نزل يقين على الجندي أن هذا الرجل يعرف كل الإجابات، فسأله: "هل صحيح أن كل واحد من الذين غرقـوا سوف يأخذ كل هذه المبالغ؟" أجاب الرجل بطيبة مصرية: "ليس هو الذي سيأخذها، بل أهله"، تساءل الجندي: "وهو؟ ماذا استفاد إذن؟"
(3)
يقول بعض مبدعي القصصّ أن القصة قد تولد وتتم في ثانية، لكن كتابتها قد تستغرق سنوات، يبدو أن هذا ما حدث للجندي وهو يؤلف قصة سيرته الذاتية مقدّما: "أخيرا تزوج من بنت عمه جمالات، وأنجب ولدين وبنتا، وكبروا، البنت تزوجت، والولد الكبير يعمل في المعمار في ليبيا بعيدا عن أية عبّارة، والولد الثاني أخذ الدبلوم وعاطل من سنوات، وهو ليس له ولد ثالث، مع أنه له ولد ثالث، فقد تعمد أن ينساه فور ولادته، بل قبل ولادته، مع أنه أنجبه قصدا بعد أن بلغه ما بلغه من تفاصيل المبالغ التي قبضها أهل الغرقى، ثم إن هذا الولد الأخير كبر وحصل على تأشيرة عمرة مضروبة، لكنها نفعت، فذهب وعاد على عبارة نجح أن ينزع ألواحا من قاعها كما علّمه أبوه منذ ولادته قبل أن يعلمه المشي والكلام، فغرقت العبارة والحمد لله، وطلع صاحبها براءة مثل الشعرة من العجين ليستطيع أن يدفع المعلوم للأب (الذي أحيل للاستيداع من سنوات)، ومضت الليالي والرجل لا يذوق النوم حتى كاد يجن، فلجأ إلى الصراف يعدّهم له وهو مرعوب من الحسد أكثر من الخنصرة، هذه الأكوام من الرزم تكفيه هو والذين خلفّـوه حتى يوم القيامة، يا ليته أنجب ولدا رابعا.
(4)
قالت السيدة الشقراء الجالسة بجوار الوجيه ابن البلد، قالت للجندي غير عابئة بأبواق العربات خلفهم: "طيب وماذا عن بقية الذين غرقوا معه؟". أجاب الجندي دون أن يتساءل كيف عرفت القصة: "هم كام؟"، قالت له "يزيدون عن الألف"، سكت قليلا، عجز أن يستوعب الرقم، تماما كما عجز أن يعدّ مبلغ التعويض، قال بهرب متسارع: "وأنا مالي، قصدي وابني ماله؟ ذنبهم على صاحب العبارة، كان عليه أن يعمل قاع العبارة من الحجر الصوان، ثم إن أهلهم سوف يقبضون الشيء الفلاني، مثلي تماما"، قالت له: "طيب وافرض أن أم واحد منهم ليس لها إلا ابنها الذي غرق"؟. قفزت من داخله كالبركان كل مشاعر الدنيا معا، فصاح ".. يا خبر اسود ومنيل بستين نيلة، طيب علياّ الطلاق بالتلاتة ماني مجوز من أصله، إن شاء الله آكل أنا وأهلي التراب بالسم الهاري".
(5)
سألتْه وقد جلسا في شرفة الفندق ذي السبعة نجوم، ومياه الخليج تتماوج في حضن دفئ الرياح الهامسة:
- دافوس؟ دافوس، يعني ماذا؟
أجاب وهو يقترب منها
- "إيش عرفني"!
قرأت عينيه، فقالت تغيظه محذِّرة في شوقٍ لا يخفى:
- خلّ بالك، عذري قائمٌ لبضعة أيام.
قال فزعا
- "يا دي المصيبة السودة"!! هذه كارثة أكبر من دافوس والعبارة معا.
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: حضرة المحترم، وتعديل الدستور!!! / تعتعة سياسية: الراقصة.. والمسخ / تعتعة سياسية: البنتُ والعـلَمْ