(1)
"هذا طريق مسدود". هذا ما قاله أبوها وهو يراقبها من خلفها وهى تحاول أن تجعل الفأر في أقصى المربعات يصل إلى قطعة الجبن في المنتصف. احتجت غاضبة: لماذا قلتَ لي؟ كنت سأعرف وحدي، قال لها: ولكنكِ علّمتِ بالقلم فعلا في الطريق المسدود، ولا سبيل للرجوع، قالت له: من الذي قال لك إنه لا سبيل للرجوع؟ قال: لا أحد، ولكنني خفت عليك أن تفشلي. قالت: وحضرتك مالك؟
أحس بتنميل في يده، فعرف أنه كان يستعد لصفعها على قفاها، فنهر كفه ومضى.
(2)
وقفت هي هذه المرة خلفه وهو يفرد الصحيفة أمامه وسألته عما يقرأ، فأجاب بجدية ظاهرة: "أقرأ الإعلانات كما ترين"، فتمادت تسأل: ألا قل لي يا والدي، لماذا خلق الله لنا العقل؟ قال لنقرأ به الإعلانات؟ قالت: ماذا؟ فأكمل وهو يخفى سخريته أكثر: بصراحة يا حبيبتي أنا أقرأ الإعلانات باعتبارها ألغازا تحتاج إلى حل، فلا عندنا ما نشترى به، ولا أنا أفهمها، قالت: ربما لأن حضرتك لا تستعمل عقلك كما يجب. قال غاضبا: ما هذا؟ أنت قليلة الأدب. قالت له: "لماذا يا والدي؟ لقد نبهونا في المدرسة أن من يستعمل عقله بغير الطريقة التي قالوا عنها سوف يعاقب، وأن ذلك عيب يستأهل الاعتذار؟ قال: ماذا!!!؟: قالت: ألا قل لي يا أبي هل معقول أن يخلق الله لنا العقل كما هو هكذا مع أنه حرام؟ قال: هكذا ماذا؟ ألا يكفي أن تحلي به ألغاز ميكي، وأفك أنا به ألغاز البورصة والإعلانات؟ قالت "بورصة" يعنى ماذا؟ قال: لا أعلم، ثم أردف: المهم: ما الذي سمحوا لك أن تستعملي عقلك فيه؟ قالت: أعبر به عما قالوه كما قالوه، قال لنفسه: ربما لذلك غيروا الاسم من مادة "الإنشاء"، إلى مادة التعبير!! ليختصوا هم بالإنشاء، ونختص نحن بالتعبير عما أنشأوه. ثم علا صوت تفكيره الصامت وهو يسأل نفسه: لكن ما الفرق بين التقرير والتعبير والتفكير؟ سمعته البنت رغما عنه فسألته: ماذا تقو يا أبي؟ قال: لا شيء.
(3)
سمعتْ الزغاريد والدفوف خارج باب الشقة وهي "طالعة السلالم يا ما شاء لله عليها"،فتراقَصَ داخلها سرا بعد أن اطمأن أن إطار جسدها انغلق عليها بدرجة كافية، متبعا تعليمات صدرت إليه بمجرد أن بدأت النتوء في صدرها تتحسس طريقها إلى ما خلقها الله، وبتكرار إتباع تلك التعليمات حذق جدار الجسد لعبة التصلب، قالت لأمها: قولي لي يا أمي: هل استعمال الجسد حرام مثل استعمال العقل؟ قالت الأم: ومن قال لكِ إن استعمال العقل حرام؟ قالت: الناس الذين يفكرون نيابة عنا؟ فهل ترقص الراقصات في الأفراح نيابة عنا أيضا؟ قالت الأم: لست فاهمة شيئا. ماذا بك يا بنت؟ تمادت البنت وجسدها يتقافز داخل نفسه يتابع الأنغام والدفوف على السلالم (يا ما شاء لله عليها)، قالت: أقصد يعني: لماذا خلق الله لنا الجسد؟.
قالت الأم: لتسكن فيه الروح، قالت البنت: وهل الروح تحتاج إلى سكن؟ ثم إن الأستاذ قال لنا إنه ليس لنا دعوة بالروح، لأنها من أمر ربنا فقط، همست الأم لنفسها "صحيح"!! ثم أكملت لنفسها أيضا: إذن لماذا خلق الله لنا الجسد؟. ولم تحاول أن تتذكر أن هذا السؤال هو هو الذي يطرأ على ذهنها كلما جمعها السرير مع زوجها الفاضل جدا، عادت إلى البنت تسألها: ما الذي جعلك تفكرين هكذا؟ قالت البنت: حين عرفت من الأستاذ ورؤسائه أن من يفكر بعقله لا بد أن يعتذر, وربما يذهب إلى النار، وجدت جسدي يفكر بسهولة أشجع. قالت الأم: هل جننت: جسدك يفكر؟!!؟ قالت البنت خائفة: أعني يعبـّر، قالت الأم: ألعن، أنت تخرفين، يعبر يعني ماذا؟ عن ماذا؟ قالت البنت: ربما يمكنه أن يكتب موضوع التعبير أحسن، قالت الأم فزعة أكثر: لقد جننت فعلا، أو لعلك تمزحين، أغربي عن وجهي. تمتمت البنت وهي تمضي: أليس ربنا هو الذي خلقنا هكذا؟
(4)
الزفة ما زالت طالعة السلالم يا ما شاء لله عليها، ثم إنه "باسم الله الرحمن الرحيم حانفرح الليلة". سألت البنت ربها: كيف يا ربنا نفرح وقد حرموا عقلنا من الإنشاء فالتعبير، ثم حرموا جسدنا من الرقص والتفكير؟
فتحت باب الشقة متسحبة، كانت الزفة قد اختفت في الدور الأعلى، فلمحت قطة جرباء تجري على باسطة السلم وفى فمها فأر حي.
إنها تكره القطط، ولا تحب الفئران.
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: البنتُ والعـلَمْ / تعتعة سياسية: استقالة وزير / تعتعة سياسية: الجيوش الشكلية والشعوب المحاربة