.... الحرب هي الحرب: "وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم، وما هو عنها بالحديث المرجم" وهى قبيحة مرعبة لها قوانينها الخاصة، متى تبدأ: "متى تبعثوها تبعثوها ذميمة، وتضرى إذا ضرّيتمهوها فتضرم"ِ لكنها إذا ما فرضت على المظلوم قدرا جاثما تصبح هي شرف الوجود، وطريق النجاة، حتى لو أفنت جيلا بأكمله لأنه تصدى لها بأقل من متطلباتها، فإنه يسلم الراية للجيل التالي حتى ينقرض الإنسان أو ينتصر الحق.
لا يوجد عاقل يريد الحرب إلا قدَرًا مفروضا، كما لا يوجد صاحب حق يتراجع عن الحرب (فالحق) إذا فرضت عليه إلا جبانا يدعي الحكمة، ويمثّل الرحمة، ثم يقبل الإهانة سرا، والاحتقار مؤجلا.
أتصور أحيانا أنه ليس من حقي أن أكتب هذا الكلام، وأنا جالس إلى مكتبي هكذا وهو مكيف الهواء، من يريد أن يفتي في مسألة الحرب والسلام، عليه أن يفعل ذلك وهو في مواقعها وسط الأشلاء والنواح والخراب، والأرجح أن من هو هناك، لا يجد عنده وقت للكلام، ناهيك عن الكتابة والفتوى، والتنظير.
الإنسان، في حروبه عبر الأزمنة، أثبت أنه أقسى وأسفل أنواع الأحياء. إنَّ وصف هذه الحروب، خاصة الحروب الحديثة بالوحشية، هو إهانة للوحوش، فالإنسان يمارس ما هو أدنى مما نسميه قانون الغابة.
الحرب هي الحرب، فإن لم نحارب، أو طالبنا بوقفها، أو قبلنا ذلك، فعلينا أن نحسن الوعي بما يترتب عليه لنتحمل مسئوليته، فما بالك إذا أعلنا أنها آخر الحروب (لا أعرف من له حق هذا الإعلان قبل آخر الزمان، إلا الله سبحانه وتعالى!!)، علينا أن نعرف المسلسل الآخر الذي ينتظرنا بتحد لا مفـر من قبوله. علينا أن نعيد النظر في دور المؤسسة العسكرية التقليدية، ومصاريفها، وحقيقة فاعليتها في مختلف الظروف، ولمدة كم من الزمن، وكأننا نحسب دراسات جدوى من واقع جديد، على ألا تتوقف حساباتنا على الصرف المادي، والعائد العنتري، وإنما ينبغي أن تمتد حساباتنا إلى تقييم ثروتنا المتبقية من وعي الناس، ونوعه، وكم المعارف، وحركية الإبداع، وبناء الحضارة، حيث تقوم بكل ذلك جيوش السلام الحقيقية التي لا علاقة لها بمجتمع الرفاهية، ودعة اللاحرب، واستقرار العروش.
الحرب إذا طالت حتى أصبحت هي الغذاء اليومي لشعب ما عبر سنين عددا، يتخلق من خلالها بشر جديد لا نعرف ملامحه حالا، لكنه يتخلق، ربما على الجانبين معا، المنتصر والمهزوم. الإبداع الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، (مثلا: كل شيء هادئ في الميدان الغربي. رينيه ماريا ريلكة: والثانية مثلا: هرمان هسّة)، ظهر من الجانبين حين استوعب مبدعو الطرفين بشاعة ما يجرى، وثمن ما دفع بسبب هذا الغباء المجرم. السلام الذي يخرج من مثل هذه الحروب، حتى لو كان سلام المستسلم، هو شيء آخر غير السلام الذي يصدر بقرار يجهض حركية الصراع لصالح الظالم المتغطرس، والسلطة الملتبسة. لا أحد يدعو إلى استسلام مثل استسلام ألمانيا واليابان، لكن إذا استمرت الحرب سنين عددا حتى فرض الاستسلام نفسه بسبب واقع حقيقي وليس من خلال تنزيل من مؤسسات فوقية لم تحتمل الاستمرار، فلتكن بداية جديدة، لحروب من نوع جديد.
الفرصة الآن، مهما كانت النتائج أو الخسائر أو المكاسب، تتيح إعادة النظر في كل ما أشيع عنا وعنهم طوال مدة صراعنا معهم طول هذا العمر: كم صاروخا أطلق على إسرائيل خلال ستين عاما، وكم صاروخا أطلق خلال أربعة أسابيع؟ كم يوما استمرت الحروب الرسمية، وكم شهرا أو سنة استمرت حروب المقاومة (بما في ذلك حرب الاستنزاف)؟ ما هو أثر خبرات الحرب الحقيقية الممتدة بكل خسائرها وضحاياها على البنية الأساسية وما يسمى الرفاهية، وما هو أثرها على الوعي والكرامة والأطفال وقبول التحدي وتخليق البشر؟ ثم ماذا عن التعليم والبحث العلمي والمعلوماتية وتحريك الإبداع.. إلخ
من الذي يستطيع أن يحسب ذلك، وكيف؟
التاريخ يقول لنا إن الحروب لعنة بلا حدود، لكنها أيضا فرصة بلا حدود.
حين دافعتُ عن القتل في الحق، باعتبار أنك حين تقتل قاتلا فقد أحييته، نبهتُ إلى أن ثمَّ قتلا آخر أخطر وأخبث هو الذي ينبغي أن ننتبه إليه أكثر، وهو الذي يختفي في أوراق الهدنات والمعاهدات والاتفاقات، لم يكن الأمر عندي بهذا الوضوح، لذلك كتبته شعرا، فاعترض عليه الكثيرون حتى رحت أراجعه، ولم أنشره، وحين وصلني الآن أوضح، قلت أعلنه:
القتلُ فعلُ فارسٌ، حتماً يموتُ إنْ ظَلَمْ، لكن دسَّ السمِّ في نبض الكلامْ، قتلٌ جبان.
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: تعبير!! / تعتعة سياسية: الجيوش الشكلية والشعوب المحاربة / تعتعة سياسية: ثقافة السلام وثقافة الحياة!!!