من أهم ما يمكن أن نخرج به من تجربة الحرب الباهظة هذه: هو إعادة النظر في كل شيء.
هل نحن جادون في حياتنا فعلا؟ هل آن الأوان أن نعرف أن وقتنا –فردا فردا- محسوب علينا فردا فردا؟ ثم على الأمة مجتمعة؟ في السلام كما في الحرب؟ هل آن الأوان أن نعرف معنى العمل، حتى نعرف معنى الراحة؟ نعرف معنى الحرب حتى نعرف معنى السلام؟ نعرف معنى الحياة حتى نعرف معنى الموت في سبيلها؟ نعرف أن ما نملأ به الوقت أثناء ما نسميه السلام، كمًّا وكيفاً هو عتادنا أيضاً وأساساً أثناء الحرب وبعد الحرب؟
هذه أسئلة قديمة، لكن ما جرى لنا وحولنا مؤخرا من آلام وخراب وبطولات وروائع يلزمنا بإعادة النظر فيها، أداءُ شرفائنا في الحرب الأخيرة كان به من الإبداع بقدر ما به من التضحية والشجاعة والبطولة. إعادة تعمير ما خرُب من بنية أساسية ومقومات مدنية وحضارية، ليس أسهل أو أهم من إعادة تعمير نفوسنا وأرواحنا بعد أن خرّبها التراخي والاستسهال والتأجيل والاعتمادية. أرواح الشهداء تنادينا، ودماء الأبرياء تزكم أنوفنا، وإعادة بناء أنفسنا وتعميرها هي الأساس في أي حركة قادمة إن كنا تعلمنا أو نريد أن نتعلم، وإذا كان الشاعر القديم يقول "السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ"، فعلينا أن نمارس كيف أنه:"الحربُ أصدقُ إحياءً من الخُـطبِ".
تعالوا ننظر في مستوى أدائنا في أي مجال؟
خذ تصريح د. أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية (12 أغسطس 2006 المصري اليوم) بأن99.7 % من تقارير الأداء للموظفين بالحكومة "ممتازة"’(أي والله) اقرأ هذا الرقم وأنت تتذكر الأداء في أي موقع حكومي، ثم تصور أن حربا سوف تقوم غدا، وقل لي ما ذا تتوقع؟ قس على ذلك تقديرات الماجستير والدكتوراة، أو دعنا نكتفي بأرقام ونسب نتائج الثانوية العامة بما يسبقها من تصريحات المسئولين والوزير المختص، وما يلحقها من إعادة توزيع الدرجات بعد الإجابة، والاستجابة لدموع الطالبات الخائبات، واحتجاجات الأهل الملهوفة قلوبهم على رقة مشاعر أبنائهم وبناتهم. بأي حق يعترض ولي أمر طالبة على ما تصوره من صعوبة امتحان حساب المثلثات؟ وهو لا يميز بين الجذر التربيعي والشكل شبه المنحرف؟ تشترك المعارضة في هذه المهزلة أكثر من الحكومة، المعارضة تلوم الحكومة على صعوبة الامتحان، والحكومة تعتذر وتقسم بالله العظيم ثلاثا أن الامتحان هو من المقرر جدا جدا، وأنه لا يحتاج إطلاقا لعناء تشغيل المخ من أصله، وأنها –الحكومة- سوف تتدارك الموقف فتعطي درجات أقل للأسئلة الأصعب، حتى تكافئ من لم يشغل مخه، ربما خوفا من أن يستمر تشغيله بعد الامتحان –لا قدّر الله- فيرى ما تفعله الحكومة على حقيقتة.
كنت مشاركا في برنامج تليفزيوني (ليس عن السياسة مباشرة)، صرح فيه سياسي رسمي متحمس، لا أشك في إخلاصه، أن السياسة هي "العمل على إرضاء الجماهير"، وبجهلي المعتاد حاولت أن أجتهد فقلت ما خطر ببالي: بل إن السياسة هي "فن أو علم تحريك الجماهير لصالحهم". وأحسب أن زميلي السياسي لم يلتقط ما قصدت، أو لعلي أخطأت، وسيادته أعلم.
حتى الرشاوىي اللي ترشو بها الحكومة الناس هي رشاوى هامشية خائبة تافهة لا تعرف الحكومة ماذا تطلب من الناس مقابلها، أو لعلها تكتفي بأن تقبض مقابلها ما تيسّر "طناش" وتفويت.
حين دعا ونستون تشرشل ناسه للقتال ضد هتلر عام 1940، أعلمهم أنه لا يملك ما يقدمه لهم أو يعدهم به سوى الدم والعرق والدموع، فانتصر، ومع ذلك لم يستعمل تشرشل انتصاره في أن يفرض نفسه ليستمر في الحكم، في هزيمة 1967 كان التبرير الذي قدمه قادتنا هو أنهم بما فعلوا حاولوا أن ينقذوا أرواح أبنائنا، فكانت النتيجة ما نعرف، ومع ذلك فقد كانت مكافأة الهزيمة هي أن يستمر الحال على ما هو عليه حتى تاريخه، باستثناءات مؤقتة مشكورة، أجُهضت بخراب النفوس، وغياب الوعي.
إذا كنا نريد أن نعرف مصير أي حرب قادمة، فلنبدأ من الآن بتقييم أدائنا فردا فردا طول الوقت. إن قوة أية أمة لا تتحدد بعدد أفرادها، وإنما بمساحة وعي هؤلاء الأفراد، وكيف يصب هذا الوعي في أداء يومي منتج جاد، في السلم أولا، حتى إذا حل قدر الحرب –لا قدر الله– تحول زخم تلك الجدية إلى أداء في الميدان لا يمكن أن يخيب، وإن طال الزمن.
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: الحرب هي الحرب! / تعتعة سياسية: ثقافة السلام وثقافة الحياة!!! / تعتعة سياسية: لِمَ قُـلتَها شيخي