.. نحن ننسى -أو نتناسى- باستمرار هذه البديهية التي هي القاعدة في كل شيء. نحن نعمى عن الثمن الحقيقي لأي قرار حقيقي. يتجلى ذلك أكثر حين يبدو لنا الثمن باهظا. النتيجة هي أننا ندفع ثمنا أفدح منه، ولمدة أطول، الأخطر أن ندفعه في السر، أخطر الأخطر أن ندفعه بلا وعي، فندفع أضعاف ما كنا سندفعه أولا.
للحرية ثمن، وللديمقراطية ثمن، إذا أردت أن تكون حرا بحق عليك أن تجازف بكل شيء، حتى بما تتخيل أنها حريتك التي تتصور أنك ترفل فيها، وأنت لا تتحرك إلا في سجن أفكار وحتى مشاعر ليست من صنعك، دع هذا جانبا ولنتذكر معا أن للديمقراطية التي يتغنى بها الجميع، ثمنا قد يكون باهظا، لا يبرر دفعه إلا أن عكسها ثمنه أكثر تكلفة، وبضاعته أسرع فسادا.
للحرب ثمنها، وللسلام ثمنه، لا يجوز أن نختار الحرب ونصر أن نقبض ثمن السلام، كما لا يجوز أن نختار السلام، أو حتى الاستسلام، ثم نطالب بنصيبنا في مكاسب الحرب، وكأننا نحارب مع من يحاربون.
الحرب قدرٌ قبيح، لكنها قدر. لا أحد يريد الحرب ابتداء إلا ظالمٌ غبي مستغل قاتل. بشاعة حرب هذه الأيام لا تصلح الكلمات لوصفها. حتى الصور في الفضائيات هي أعجز من أن تنقل رائحة الدم، ولا عفن الجثث المتفحمة، ولا مشاعر طفل وهو يتعثر في أشلاء أمه، ولا ثكل أم لرضيعها.
حين يفرض قدر الحرب نفسه، فنختاره اضطرارا، علينا أن نتقن حساباتنا فنبادر باستثماره ودفع ثمنه بشجاعة الأحرار، ودون تحديد مسبق لعمره الافتراضي، قدر الحرب ليس له عمر محدد، ولا نهاية معروفة مسبقا، علينا أن نصنع منه قدرا آخر، قدرا يعوضنا ما فقدنا من أرواح وخراب وبنية أساسية وتقشف وآلام وشقاء، ندفعها جميعا دون استثناء. حين تبين الشيخ حسن نصر الله حجم الثمن الذي دفعه الشعب اللبناني كله، والبناء اللبناني كله، مقابل أسر جنديين من جنود الاحتلال، اعترف بأمانة أن الثمن كان باهظا فعلا، لكن ذلك لا يعني أنها الهزيمة، أو أنه التراجع، بل إنه يعني المصداقية، والتعلم، فهو أول من يدرك أن استرداد الثقة، وتبين الطريق إلى الكرامة، هو الثمن الذي نقبضه جميعا مقابل ما دفعناه في الحرب، فتكون الحسبة النهائية لصالحنا، لو أحسنا استثمارها.
السلام قدر آخر، نحن نختاره اضطرارا أيضا رغم ظاهر الحسابات، وهو قدر أصعب وأغمض برغم صمت الانفجارات وظاهر السكينة، خاصة حين نخلط بين ما هو سلام وما هو استسلام، أوحين نتصور (أو يصورون لنا) أن للسلام ثمنا نقبضه، دونما ثمن ندفعه. هذا ليس سلاما، هذا تركيعٌ مقابل رشوة، لقد دفعنا ثمن سلام 56 بتمرير إسرائيل سرا في مضايق تيران فمنحناها ولادتها الثانية، أما في 67 فقد دفعنا ثمن الحرب دون حرب، وثمن السلام دون سلام، ثم كان ثمن سلام 78 (متضمنا فاتورة هزيمة 67 ونصر 73 معا) أكثر التباساً حتى انتهت الصفقة إلى ما نحن فيه الآن، (برغم تحرير الأرض، دون البشر). لو أننا انتبهنا أن علينا أن ندفع ثمن السلام، ذلك القدََر الآخر، إذن لتجرعناه بألم صابرين ثائرين، لا مهللين راقصين ننتظر وعود الرفاهية والأمان المستورد، نتجرعه بكل مرارته لننطلق منه إلى تثوير التعليم، وبناء الاقتصاد، وتنمية البشر، ورعاية الإبداع، وإطلاق الحريات وتغيير آليات الدفاع حتى لا تعود قاصرة على المؤسسة العسكرية التقليدية باهظة التكاليف، وإنما يعد الشعب كله للمقاومة على مدى العمر، طول الدهر، بجدية يومية، ومحكات موضوعية، في كل مجال.
ْالمؤسسات العالمية المفروض أنها مسئولة عن إحقاق الحق، ونشر العدل، ورعاية السلام، أصبحت مؤسسات مشبوهة مغرضة متحيزة. البضاعة المطروحة من السلام السهل الموصى عليه هي بضاعة مغشوشة غالبا، والشيكات المقدمة مقابل مثل هذا السلام هي بلا رصيد. النتيجة أننا نتصور أننا بقبولنا إياها نقبض الثمن في صورة أننا ننقذ أرواح بعض أبنائنا من الهلاك، في حين أننا –إن لم نحسبها لندفع الثمن بعلانية مسؤلة- فإننا نسلم أرواحنا كلنا إلى ظلام خطير لا يعرف الطريق فيه إلا الخفافيش.
يكون السلام سلاما واقعا له معنى، وعمر، وضمان، وناتج، حين يتحقق بانتصار الشعوب على سلبياتها من واقع نتائج أدائها، بما في ذلك أدائها في الحرب، لتعرف كيف تستثمره بمزيد من الإيجابيات لها، ولكل البشر: إبداعا وحضارة.
قدر الحرب يصبح قدر الحياة الشريفة حين يكون خطوة نحو قدر سلام مؤلم رائع، له ثمنه جدا.
هكذا، وباستمرار!!
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: الحرب والجدية والاستسهال / تعتعة سياسية: لِمَ قُـلتَها شيخي / تعتعة سياسية: الحزن والعدل والحلم والحكومة