حين كنت في فرنسا 1968/1969 كان الأستاذ الدكتور بيير بيشوا مهتما أشد الاهتمام بمقارنة التشخيصات المختلفة في اتجاهات الطب نفسية المختلفة، كانت الاتجاهات ثلاثة أساسية: الطب النفسي الأوربي، كما يتجلى في معظم دول أوربا الغربية فيما عدا دول الشمال الغربي، والطب النفسي الأنجلوساكسوني، ويتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا، والطب النفسي الإسكندنافي ويتمثل في دول الشمال الغربي السويد والنرويج وما إليهما، وكانت ثمة محاولة لتقسيم فرنسي رائع (1968) وضع –مثلا- الاكتئاب غير النموذجي تحت فئة الفصام، مما له دلالة علاجية خاصة (عندي نسخة على الآلة الكاتبة، لأن التقسيم لم ينشر أبدا بعد الهجمة الأمريكية).
منذ ذلك الحين، أغارت أمريكا على كل التقسيمات، (بما في ذلك التقسيم المصري العربي الذي لم يحتمل غلوة)، بما سمي التقسيم الأمريكي الثالث، ثم الرابع، والبقية تأتي. الإغارة امتدت حتى التقسيم العالمي العاشر، وإن كان القائمون عليه قد حاولوا الحركة بعيدا عنه إلا قليلا.
هذه العولمة الطبنفسية سبقت موجة العولمة السياسية أو الاقتصادية ثم واكبتها، وهي مثل العولمات المطروحة جميعا، ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبله العذاب. الرحمة كانت تحت شعار: لا بد لأطباء النفس والعلماء أن يتكلموا لغة واحدة حتى يمكن التفاهم فيما بينهم، خاصة في الأبحاث العلمية، الانتشارية منها بالذات. أما حقيقة ما جرى فهو لخدمة شركات الدواء بعد أن فرضت مفهوما غبيا اسمه "الخوارزمية" (نسبة إلى الخوارزمي) يوصي بالتسلسل بالأدوية تسلسلا تدريجيا لكل مرض بحسب جدول محكم قد يؤاخذ (أو يحاكم) الطبيب إذا خالفه. الخطر الذي لحق بالممارسة الطبية من جراء هذه العولمة الطبنفسية أصاب صغار الأطباء أكثر حين أصبح كل همهم، وواقع امتحاناتهم في الشهادات العليا، أغلب نقاشاتهم شبه العلمية، لا تدور إلا حول محاولة تمييز مئات التشخيصات من بعضها البعض، بديلا عن الاهتمام بالصياغة المتكاملة لأبعاد كل حالة على حدة بما يرشد إلى أنجع طرق علاجها بالذات.
الحصيلة الختامية أن الاهتمام بالفروق الثقافية تراجع تدريجيا حين توقف الأطباء الممارسون عن ممارسة فن التطبيب وحرفة المواساة والمداواة واستغرقوا في شق الشعرة التشخيصية إلى ذرات تكاد لا تنفع إلا للترويج لأدوية بذاتها، تُعطى لأمراض بذاتها، بترتيب بذاته، ماذا وإلا.
وعقبال السياسة والاقتصاد بالسلامة.
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: دع البله وابدأ النظر / تعتعة نفسية: الطبيب النفسي والفتوى الإعلامية / تعتعة نفسية: المخ البشري يفهم غصبا عنك