خاطبتني إحدى المذيعات الفاضلات من قناة فضائية مصرية قطاع خاص، وطلبت مني أن أساهم هاتفيا في بعض ما ينفع الطلبة بمناسبة بداية العام الدراسي الجديد. مازلت أذكر آثار مشاركتي في برنامج في إذاعة الشرق الأوسط باسم تذكرة نجاح عام 1974، الأمر الذي أدى دورا لم أكن أتوقعه حتى أن رجالا ونساء حول الخمسين، يذكروني به بين الحين والحين حتى أيامنا هذه. كانت كلماتي (خمس دقائق) تنتهي كل يوم بأنه "اعمل اللي عليك دلوقتي، وسيب النتيجة على الله".
كنت على ما أذكر أحاول أن أوقف هذا الانشغال المشَتِّتْ حول تصور عدم التركيز وضعف الذاكرة: أنبه أن كل ما على الطالب، وعلينا، هو "ملء الآن" بما ينبغي لا أكثر، لم أكن أدرك أنني أشير إلى كفاءة المخ البشري وقدراته الرائعة على الأداء السليم بمجرد أن تتاح له الفرصة الحقيقية.
دق جرس التليفون من الفضائية وسمعت طرفا من الحديث وكان الضيف ينصح الطلبة بضرورة التركيز للفهم دون الحفظ (كان يقصد دون الصمّ). برغم ما في هذا القول من صواب، شعرت أن ثمة مبالغة قد تفهم خطأ، حاولت أن أفهم المذيعة والزميل أن الفهم أسهل للمخ السليم من عدم الفهم،حاولت أن أبين كيف أن المخ البشري يفهم غصباً عنا مهما حاولنا إعفاءه من الفهم، حاولت أن أنفي الأوهام التي تؤكد ضرورة أن يكون التركيز والفهم من أعمال الإرادة الواجب توافرها بوضوح أثناء أو قبل الاستذكار، إن المعلومات المنظمة تنساب إلى المخ وتبقى حتى لو تصورنا أننا لا نركز ولا نفهمها، إن توزيع الطاقة في استجلاب إرادة التركيز وإرادة الفهم قسراً وقَبْلاً، قد يشتت هذه الطاقة ويجعل المخ في انشغال بالتجهيز والتشكيك، بدلا من التهيؤ والتفرغ لتلقي المعلومات المرتبة بتلقائية طبيعية.
قلت لهما إن المهم هو الأداء المنتظم في الاستذكار لمدة أربع ساعات يوميا –مثلا- من كتاب واضح، مكتوب بلغة سليمة، قد يشرحه مدرس منظم. ثم إن نفس هذا المخ هو الذي سيرتب الإجابة ويستعيد المعلومات تلقائيا أثناء الامتحان، لو أحسنّا تشغيله دون تشكيك وإضاعة الوقت في تساؤلات وتوصيات حول مسائل التركيز والذاكرة.
اعترض أو دهش الزميل المقدم بذوق وأدب، وشكرني على مداخلتي وكأنني الذي طلبت، فاعترضت، وأعلنت أنهم هم الذين طلبوني، ضحكت المذيعة وشكرني الزميل، وعرفت بعد ذلك أنهما كانا من الأمانة بحيث تركوا اعتراضي على الهواء ليعاد كما هو لاحقا.
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: الطبيب النفسي والفتوى الإعلامية / تعتعة نفسية: عولمة الطب النفسي سبقت، وأفسدتْ / تعتعة سياسية: المادة 179، وأحلام الشباب!