مغترب مصري نفذ بجلده إلى بلاد الشمال بعيدا، ومن هناك يكتب غاضبا وساخطا على ما يحصل فينا ومنا ولنا، ويرى أن مصر بتاريخها وحضارتها تستحق نظام حكم أفضل من هذا الذي هو في السلطة، ولإزاحته يجدد دعوته للعصيان المدني، ويرى أن نزول خمسين ألف مصري إلى الشوارع كفيل برحيل النظام أو إسقاطه!
مر بخاطري قول المتنبي:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بَشِمْنَ، وما تَفْنَى العناقيدُ
تشبع الثعالب جيلا من بعد جيل، وما تفنى عناقيد العنب في مصر المحروسة، واسعة الرزق، منهوبة الموارد!!
والنواطير نائمة، والثعالب تأكل وتأكل، وأغلب سكان مصر غارقين كل في دنياه، ومشاكله وهمومه، وربما ملذاته وأولوياته.
مازال فينا خير كثير، ولكن المسخ يستشري، ويصل إلى النفوس والأرواح تحت ضغوط الشهوات والشبهات والاحتياجات التي تنشر الجبن والبخل، ونكران الجميل، واضطراب المعايير، واختلاط الألوان مع تصاعد التطلعات!! كأن الإنسان يمشي في بلاد الأقزام، فلا ترى حولك إلا مسوخا مشوهة، قصيرة القامة والهمة، ضعيفة التقدير والتدبير، ضعيفة الأخلاق، مختلة المواقف، مترنحة الخطوات!!، ومازال فينا الخير مثل العنب الذي لا ينفذ!!
يا أخانا الذي في الشمال أقول لك بصراحة:
أنظمة الاستبداد تطفو مستقرة فوق بحيرات آسنة من فساد العقول والنفوس، وموت الأرواح والضمائر وغيبوبة عن الفعل السليم، وإيثار السلامة، واللعب في السليم والمضمون!!
مثل "الرياء" يتسلل المسخ فيصبح الناس أقزاما، الشرك الخفي يطفو مثل دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، والضجيج كثير، والكذب والنفاق والأقنعة والإغراق في التقمص والخداع هي مفردات الحفل التنكري الكبير الذي نعيشه!!.
ومازال الخير فينا، لكننا نجتهد في محاصرته كما يحاصرنا الأمن المركزي، وأمن الدولة، وأمن المسطحات المائية!!.
نعم نحاصر الخير بداخلنا لأننا صرنا نحسبه عبطاً، وطيبة قلب وسط الثعالب، ونحن نريد أن نكون ثعالب لكي نأكل بعض العنب، وكأن الأدوار المرسومة أن تظل نواطير، أو نتشوه لنصبح شيئا بين الكلاب والذئاب، أو ننضم إلى صفوف حزب الثعالب من أكلة العنب!!
ووسط هذا التيه والتخبط نحاول أن نتطلع إلى الجنة في الآخرة طالما أفلتت منا الدنيا، ويندمج الناس في طقوس الأذكار والعبادات والصلوات الفردية وينسون الجُمَع والجماعات، أقصد ينسون أن الجنة طريقها الدنيا والناس!!
هزني أثر قرأته في كتاب للشيخ "سعيد حوى" رحمه الله، ففي كتابه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ينقل قوله: يسأل الله سبحانه وتعالى ابن آدم حين يقف أمامه، يا بن آدم....... ماذا فعلت فيما لي عليك؟!
فيجيب ابن آدم: يا رب.. تصدقت وصليت وصومت، فيقول رب العزة: هذا لك، فماذا فعلت فيما لي عليك، فيقول ابن آدم: يا رب، ومالك علي...... فيقول له رب العزة: هل عاديت لي عدواً، أو واليت لي ولياً؟!.
يحسب البعض أنهم ناجون، وأن طريقهم إلى فسيح الجنات يمكن أن يمر بعيدا عن الناس!!.
أي يمكن أن يكون دون أن يخوضوا في الدنيا، ويكونوا أصحاب موقف لصالح الحق والخير، والقيم الجميلة، وكلمة الله أن تكون العليا!!.
يحسب بعضنا أن الصوم والصلاة والأذكار ستكون تعويضا عن الكذب والخيانة، والغدر، وعدم الوفاء، والخرس في موضع الكلام، والكلام في الاتجاه أو الوقت الخاطئ، والجهاد الخاطئ، والتفكير المعوج الخاطئ!! يحسب البعض أن الجنة سهلة!!
يحسب بعضنا أن تقصير الثوب، أو إطالة اللحية والسجود أو ذيل الإسدال أو الخمار سيكون شفاعة لهم للتخريب الذي نمارسه أو نشارك فيه أو نسكت عنه في كل مجال من المجالات، بل في كل شبر من هذه الأوطان السلبية المحتلة!
أتخيل نفسي أخطو وسط الصحابة رضوان الله عليهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرى نفسي قزما وسط عمالقة!
رجال صدقوا ما عاهدوا عليه، وأعود فأجد نفسي هنا وسط أقزام أصغر بكثير فلا عهد ولا صدق ولا رجولة!!!
نحتاج إلى علاج نفسي طويل عميق وممتد وشامل يلتقط ما تبقى من الخير فينا مثل الرمق، ويبني عليه، وينميه ويطوره.
يبني على رغبتنا الصادقة في جنة عرضها السموات والأرض ويرشدنا ويدربنا، ويعلمنا ويذكرنا أنه لا سبيل إلى الجنة إلا عبر الدنيا والناس، والمواقف، والحب والكره، والعداء والموالاة، والبيع والشراء، والخطأ والمجاهدة، والصبر والمواصلة، ومغالبة الدنيا وعمارتها!!
يا أخانا الذي في الشمال لو تصلي من أجلنا سيكون أفضل، لأنه كما تفسد الأسماك من رأسها، فإن المعادن النفيسة حين تدخل إلى النار تنفي خبثها.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: عصر الحريم / على باب الله: مولد أمة