مرت ذكرى ميلاد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على الناس كما تمر غالبا, وكانت فرصة لمن يريد أن يقول كلمة ويمضي، أو يذرف دمعة وينسى، أو يلصق ورقة تحمل عبارة نحبك يا رسول الله، أو "إلا رسول الله" أو "نحن فداؤك"، ولولا بقية حياء لوجدنا من يعلق "بالروح بالدم نفديك يا نبينا"، ثم الخلق يعودون من حيث أتوا فيسيرون على خطى الحبيب بأستيكة!!
وأول ما قيلت هذه الطرفة كانت تعليقا على كلمة قالها السادات عند استلامه للسلطة حيث أدلى بتصريح أنه ومصر كلها ستسير على خط "عبد الناصر"، ثم تدريجيا وجد الناس انقلابا كاملا على سياسات وآراء وتوجهات "ناصر" لصالح خط آخر تماما، فما ترك المصريون الفرصة ليطلقوا النكتة قائلين: أن السادات يسير على خط "عبد الناصر" بأستيكة" أي "ممحاة"، والمعنى واضح من أنه يسير على خطه محوا لا اتباعا وتأسيسا، وهكذا يبدو أغلب المسلمين على خطى الحبيب!!
كنت أسير ممسكا بيده الصغيرة جدا، مسرعا أحث الخطى معه إلى صلاة الجمعة، ثم جلست وولدي نستمع إلى الخطبة، وفوق المنبر واحد من شباب أسهمت في تشكيل عقولهم حين كانوا صغارا، والحقيقة أنه يدهشني في سرعة نضجه، وعمق تطوره وفهمه، وقد زادته دراسته الشرعية والأدبية تعلما ودراية.
وصلت إلى المسجد، وهو يتلو آية تربط بين الإيمان كعقيدة، والتفكير كممارسة لازمة ومصاحبة، ووجدته يقول: انتبهوا فلا تفكير ولا عقل سليم بدون إيمان صحيح، ووجدتني أرد عليه هامسا: والعكس أيضا يا جميل، إذ لا إيمان يستقر في القلب، ويصدقه العمل إلا مع تفكير وعقل، وإلا تحول الدين إلى مسخرة وعبث كما نرى ونسمع، ولذلك فإن الإيمان والعقل قرينان إذا غاب أحدهما غاب الآخر، أو بالأحرى تشوه وصار مسخا، وكلاهما من الله سبحانه نعمة وفضل، ومنة أعطاها كل أحد إلا من أبى، ومن يأبى كثير!!
ثم وجدت الخطيب يقول أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتقلت بوفاته لتصبح مهمة كل واحد فينا، إذا كنا حقا أمته!! أمسكت بهذا المعنى، أو حقيقة هو الذي أمسك بي، وذهب بي كل مذهب!!
نعم.... هذا هو الطريق: "قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108) كلنا رسول من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، الوحي اكتمل في القرآن، والرسول انتقل، وبقيت الرسالة تدعو أصحابها إلى القيام بالمهام التي يرسمها الله سبحانه في محكم التنزيل، وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم نموذجا لتطبيقها بحسب عصره وزمانه ليكون أسوة لنا في مسارنا من بعد.
أوامر من الله سبحانه وطاعة واتباع وحسن تطبيق من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخلاق مستقرة ومتينة، إذ لا يمكن حمل مثل هذه الرسالة وتبليغها ونجاحها وانتشارها بدون هذه الأخلاق، وأدوار وخطوات بعد خطوات، والخريطة مرسومة وواضحة في آيات الكتاب، ولوائح التنفيذ الأول موثقة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، وكلماته وأفعاله!!
والمسلمون يضجون بالصراخ: "إنهم يتهكمون على الرسول، ولا يعرفون قدره، ألا شاهت الوجوه"!! المسلمون يشعلون الدنيا كلها غضبا وحنقا على السفه والسخف، وعلى المؤامرات والانتهاكات لحرمة الأديان والرموز!!
فما هو قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا؟!
وحين يقال أن حبه يقتضي اتباع سنته، فما هي سنته المعنية هنا، أو المرعية في تصرفاتنا السائدة؟!
صيام الاثنين والخميس، أم إطلاق اللحية أم حلق الشارب؟!
صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي غايتنا أم حقيقته وجوهره، وخلقه ودينه، وقلبه وأعماله، وكل خصاله؟!
كلمات الحب والعشق قد تعجب النساء، ولكنها في حق النبي لا تبني أمته، ولا تنقذها من ظلمات تغرق فيها، وأحسب أنه صلى الله عليه وسلم ينتظر منا أن نسير على خطاه حاملين الرسالة، كما كان هو: مجاهدا، حليما، رءوفا رحيما، مخططا ومدبرا، حريصا على الناس، وعاملا معهم، زاهدا في عرض الدنيا كأنه غريب عنها، أو عابر سبيل فيها!!
لم يكن سلطانا ولا ملكا، ولا أميرا ولا جبارا، إنما كان بسيطا ومهابا، يعيش حياة المساكين، وهو يملك أن يكون له مثل جبل "أحد" ذهبا!!
لم يكن درويشا –بأبي هو وأمي- إنما كان يصلي من الليل حين يسكن الناس ويهجعون، أما نهاره فكان وسطهم معلما ومرشدا، وقائدا ورائدا، يسبقهم إلى الموت قي الجهاد، ولا يأكل من الصدقة، ولا كان في بيته شيء إلا حفنة من شعير، ومات ودرعه مرهونة عند "يهودي"، ولعله مقابل رهن الدرع أخذ دراهم لمصروف البيت، وفي المسلمين اليوم من يموتون جوعا، وآخرون يصرفون ويغضبون في مولد الرسول، أو مولد رسوم الرسول، وكلها موالد!!
والصارخون هؤلاء بعضهم يكاد يختنق من التخمة، ويغرق في الترف، ولا يرى أن إطعام جياع المسلمين أهم عند رسول الله، رسول المسلمين، من سكب العبرات، ورفع الصوت بالصراخ!!
في المسلمين ظالمون كثيرون، ينامون حين يحل الظلام، ولا تطرف لهم عين، ولا يهتز لهم جفن، وهم في نهارهم يخوضون في الأعراض، أو ينهبون أموال أمة محمد، أو يتسلقون على رقابهم، أو يزيدونهم رهقا بدنيا أو معنويا، فرديا أو جماعيا.
في المسلمون كذبة كثيرون، وهو الذي قال: لا يكون المؤمن كذابا، فإذا بالكذب يصبح خبز أمته، وبدونه لا حياة لها، إذ تسقط فورا كل الأقنعة، وقصور الرمال، وتهوي الأحمال حين تنكسر الأرجل الرفيعة للكذب!!
أتصوره صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في مأمورية سريعة ليشاهد من عاش أيامه، وجاهد، وقال، وفعل لكي يتعلموا عبر الزمان، ويؤمنون به، وهم لم يروه!!
ما معنى أن نؤمن بالرسول أصلا؟!
نشهد أنه رسول الله.. نعم، ولكن الإيمان أعمق وأوسع من مجرد الشهادة، فمتى نفهم؟!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: أخانا الذي في الشمال/ على باب الله: أحوالنا