سمعت شريطا للداعية المشهور يتحدث عن "فتنة النساء"، وفي كلامه خير، ولكن فيه خطر ترديد المقولات التي شاعت عن وضع المرأة كما هو حاصل، وكما ينبغي أن يكون!!
البنات الكاسيات العاريات، ورجال كل منهم "ديوث" يقبل بالزنا في أهله طالما يسمح لبناته بالخروج هكذا!!
والفاحشة التي شاعت لأن الفتاة أصبحت جريئة أكثر، وتعطي أسهل، والشباب الجاهز لفعل الموبقات، والمنشغل بالشهوات عن الله، وعن معالي الأمور، فيسقط في فتنة النساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
ثم وصفة العلاج الأكيد، وما سمعت إلا ثلثها الأول ثم انصرفت!!
وكل هذا الجزء كان متعلقا بمكان المرأة، وحدود حركتها، فهي منتقبة بالضرورة، تلزم بيتها، ولا تسير إلا في طرف الشارع إذا نزلت لقارعة، أو إلحاح حاجة لا مفر منها!!
التشخيص واضح: فسق وانحلال وتفكك، والعلاج واضح أيضا: الفتنة تبقى في البيت قائمة، أو قاعدة، أو نائمة لعن الله من أيقظها!!
ولا كلمة واحدة عن الفقر وآثاره، عن تآكل فرص تكوين الأسرة أو استمرارها!!
ولكن منظومة كاملة ومدهشة من الأفكار والتصورات والأوضاع والأحكام تحتاج إلى فك وتحليل وتنفيذ، ولكن كل هذا المطلوب بإلحاح لا يحصل خوفا من الرأي العام، ولا يتصادم مع هذا الخطاب إلا نفر من هواة المغامرة، وربما أصحاب نظرية حتمية العلاج بالصدمات!!
وأسلحة وجولات المواجهة غير المتكافئة تؤدي إلى هزائم متلاحقة للواقفين تحت راية التنوير لصالح نجوم الكاسيت والفضائيات، دعاة حبس "الفتنة"، ومحاصرة المنكر بحجب النساء!!
ويبدو أن أصحاب الفهم والعقول قد تعبوا، أو هم متفرقون في معارك أخرى، أو صاروا يؤثرون السلامة، واجتناب وجع الرأس، أو يقتصرون على فئات معينة، أو طبقات اجتماعية أرقى، أو لا أعرف!!
ورحم الله الشيخ المقاتل "محمد الغزالي" الذي علم أجيالا سابقة أن معركة الإسلام تدور في عدة ميادين بنفس الوقت، فهناك مواجهة مع الاستبداد السياسي، وهناك أخرى ضد المفاهيم المستوردة الضارة، وهناك مواجهة كبيرة وحتمية مع الفقه البدوي -كما أسماه- وقد خاض بنفسه المعركة تلو المعركة في هذا الميدان وذاك بالكتابة، والخطابة، والحركة داخل وخارج مصر، حتى لقي وجه ربه، وهو على هذا المنهج، رحمه الله.
وعلى مقعد عيادتي أجلس لأرى التداعيات النفسية، والتشوهات الفردية والاجتماعية الناتجة عن غياب القدرة على التفكير والتمييز، وانسحاق العقل والعقلانية، والفقه والمنهج الشرعي السليم مع انتشار هذه الأفكار، وأشد منها للأسف الشديد!!
وفي غياب الحد الأدنى من العقل والضبط الشرعي، والوعي بالدين والدنيا، وفي شيوع الجهالة والنفاق فكل شيء ممكن!!
لقد تمت تصفية المجتمع من قوى المقاومة والممانعة بالمبالغة في تحريم ما أحل الله، وبالتضييق على حركة الناس مما صب مباشرة في تقوية شوكة الأنظمة بعسكرها واستبدادها!! بل وكل العلل والأمراض!
النساء في البيوت، والرجال مطحونون في دوائر كسب العيش يدورون في السواقي الجافة من تحتها الترع في أراضي بور، والشارع خالي إذن للأمن المركزي، ولصوص السكك والمتسكعين والمتحرشين بكل أنثى عابرة شاء حظها العاثر أن "تخرق الناموس" وتنزل لحاجة أو مصلحة!!
الخطاب الديني الرجعي هوا لحليف الأهم للاستبداد، سواء وعي بهذا أو لم يع، وكلاهما عدو للناس ومصالحهم، رغم أنه يقدم نفسه بغير هذا الوجه!!
والتجارب من حولنا دالة ودافعة حيث تتم تصفية التجمعات والتحركات تارة باسم "فتنة النساء" فيكسبون حجب أكثر من نصف المجتمع عن المجال العام، ثم باسم طاعة ولي الأمر، أو عدم شرعية أي تجمع لأن الرسول لم يسمح بأحزاب، أو جمعيات أهلية، فهي حرام إذن إلى يوم الدين!!!!
وبذلك يتحالف التغرير باسم الدين مع تغريب المجال العام!!
وأرى أغلب العامة أجهل من الجهالة بالدين والدنيا معا، وهم جاهزون لأي ملتح حسن المنطق يتحدث بالفصحى، ويتلو الآيات والأحاديث، ويرمي الأحكام فيميلون برؤوسهم، ويقولون: آمين!!! ولا تناقض عندهم بين هذا الداعية أو ذاك رغم تناقض المحتوى والتوجه، وكل شيء، ولكن لا فارق عند من يفتقد التمييز، أو أبسط دوافع التفكير والمقارنة، والفهم والفقه، وموازنة الآراء، وتمحيص الكلام!!
وهم ضائعون بين تصورات مثالية لدين متحفي لا يوجد إلا في شرائط الكاسيت وحكايات الوعظ، وبين واقع يلهث ويتفجر بالمتغيرات، والعادات والتقاليد، وأساليب العيش، ومواقف الناس وحياتهم اليومية تتشوه بيداء غياب العقل والفقه، وانعدام الرشد، وحاكمية الغباء، لا سلطان علينا غيره!! وحين تعطي نور الله سبحانه وتعالى لأحمق فإنه غالبا سيظل كما هو، إلا إذا قرر أن يتغير ويفهم ويفكر!!
وأرى أن المشكلة لا تتلخص في الجهل طبعا، لأننا جميعا نولد جاهلين بكل المعاني، ولكن الغباء واستمراره والحفاظ عليه يحتاج من المرء إلى مجهود ودأب بنهمك فيه الكثيرون فمن أرى حولي!!
وفي غياب الشجاعة والمصارحة والحرية والإرادة وعقلية النقد والمراجعة، ومبادرة الإبداع والتغيير، تجمدت أحوالنا وبالتالي صار مطلوبا منا أن نتكيف مع أوضاع غير إنسانية مقابل لا شيء، وأن نعيش ملابسات غير منطقية، وتشابكات، وتشوهات، وكلاكيع، وتراكمات لا أمل لنا في مستقبل إلا بعلاجها. هذا أو سنظل نخسر في الميادين كلها، وساعتها ليس سوى طول البقاء للاستبداد، مهما كان غبيا أو بدائيا، ولا شيء غير أن يسبقنا غيرنا في كل مضمار علم أو فن، والمزيد من المعاناة النفسية، والخسائر البشرية، حين يتوارى نور الله، ويصبح المجد للغباء!!
13/5/2007
واقرأ أيضًا:
على باب الله: مولد أمة/ على باب الله: تركيا الضوء والأسئلة