الجو بارد وإن كان ليس قارصا. رحلة طويلة ومجهدة من القاهرة إلى ستوكهولم العاصمة خاصة وأنها قد أتت بعد أسبوع حافل بالأحداث.... أخرج من بلاد الزحمة إلى أخرى نظيفة، بشكل يفوق قدرتي على الاحتمال.. ثم أتوجه في اليوم التالي على متن خطوط جوية داخلية إلى "كالمار" واحدة من أقدم المدن السويدية على بعد خمسمائة كيلومتر في اتجاه الجنوب فتفاجئني المضيفة بأن علي أن أدفع ثمن القهوة التي قبلت احتسائها ظنا مني بأنها من لزوم الضيافة...
ربما تلك المرة الأولى التي أدفع فيها ثمن القهوة على متن طائرة فتصيبني الدهشة من ذلك النظام في بلد أسمع أنها أكثر المدن تقدما. لكني أتبين فيما بعد مدى الحرص على عدم التباهي أو الفشخرة الكدابة أو النمط الاستهلاكي المبالغ فيه. ففي كل مكان لاحظت مثلا أنهم لا يتركون الأضواء سبهللة بل عليك أن تضيء دورة المياه عند الاستخدام ثم تغلقها بعد أن تنهي مهمتك...
كل شيء محسوب بدقة حتى استخدامنا للإنترنت بقواعد محددة، يشرحونها لنا ببساطة. أما حجرات المبيت داخل النزل الدراسي فقد وصفها زميلي الصحفي العراقي بأنها كالزنازين وفي وصفه مبالغة بالطبع... وبدأ اليوم الدراسي الأول بتجربة لطيفة تسمى "دائرة روبن"حيث يفضي كل منا بمشاعره عن اليوم السابق في جملة قصيرة.. وفي نهاية اليوم الدراسي طلبوا أن يرسم كل منا لوحة رمزية بالألوان المائية تعبر عن وضعه المهني وحالته.. على أن يشرح كل على حدى لوحته على مدى الأيام القادمة من الأسبوع الأول ويطرح الباقون أسئلتهم على مدى ثلاثين دقيقة لكل صحفي، مع العلم بأننا جميعا صحفيون من دول العالم الثالث.
فجاءت الحكايات مؤلمة وشديدة الأمانة كما طلب منا القائمون على دورة الصحافة والديمقراطية التي ترعاها مؤسسة "فويو" لتدريب الصحفيين على تنمية قدراتهم وتحديد أهدافهم والتعرف على الوسائل التي يمكن أن تنقلهم إلى مستوى مهني أعلى. قصص إنسانية عكست أوضاع الصحافة وحرية التعبير المتردية في عالمنا الثالث حيث تتربع مصر في المرتبة الثالثة والثلاثين بعد المائة وتتفوق عليها القمع والمنع، العراق وإيران والصين كما جاء في تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" حول حرية الصحافة. وكانت أفضلنا نيكاراجوا بامريكا الوسطى.
وعرفت أن الزميل طارق أيوب مراسل الجزيرة المتميز الذي استشهد على أيدي القوات الأمريكية أثناء اجتياحها لبغداد في حرب تحرير العراق كما أسموها قد حضر تلك الدورة قبل أربع سنوات.... وفي مناقشات على الهامش حول الجمع بين الاثنيات العرقية داخل البلد الواحد في مناقشات ديمقراطية تذوب فيها الصراعات سألت "ماري" اليسارية الهوى المشرفة على البرنامج. هل تجمعون بين العرب والإسرائيليين؟ فأجابتني بابتسامتها المحببة إلى القلب ووجهها المتورد دائما وبساطتها النافذة "نحن لا نتعامل مع الإسرائيليين وهذا يثير حنقهم" فأدركت أن لنا أنصارا يحاولون دعمنا في أكثر البقاع تحضرا.. السويد.. فما هو دورنا..؟
اقرأ أيضاً:
هل يوجد مكان للأبطأ في عصر التكنولوجيا؟/ هل نحن ديمقراطيون؟