في بقعة من أجمل ما خلق البارئ سبحانه وتعالي، هناك في إيطاليا حيث البحيرة المحاطة بجبال تكسوها خضرة أخاذة، وفي مناخ مثالي لا هو حار، ولا هو بارد، إنما كان الخريف هو سيد الطقس. ابتسم محدثي فكشف عن أسنان بيضاء تتلألأ وسط وجهه الأسمر الشاب حين سألته عقب انتخاب نيلسون مانديلا رئيسا للبلاد في جنوب أفريقيا، منذ ما يزيد علي العشر سنوات قلت: ما هي التغيرات التي طرأت علي أوضاعكم، فقال: أبدا صار لدينا رئيس جمهورية أسود!!
والمعنى أنه لم يتغير شيء إلا لون جلد الرئيس!! طبعا حدثت تطورات هائلة في هذا البلد الخطير الذي ينتمي إلى العالم الأول رغم أنه في جنوب العالم الثالث، حاملا فوقه قارة تمتلئ بالثروات، وكذلك الهدْرُ والفساد والعنصرية والتخلف!!
تذكرت هذا الموقف وأنا أتأمل إعلامنا العربي المتضخم الذي يعيش، ونعيش معه نفس طبيعة التغيير الفارغ الذي اشتكى منه صديقي ذو الابتسامة الساحرة!! الحمد لله فقد أصبح لدينا إعلام يسب الحكام العرب بحرية أكبر، ويعرض علينا آخر أخبار خيبات أملنا فيهم، وكذلك ما يفعلونه بنا، وينقل لنا كذلك معالم الفجوة أو الهوة التي تفصلنا عن البشر الذين يعيشون حياة أكثر إنسانية بمشاكلها وتفاصيلها، كما أصبح إعلامنا بفضائياته، وصحفه ومجلاته يتطرق إلى ما كان بالأمس ممنوعا في الجنس والسياسة والدين!! ولم تعد الفرجة مقتصرة على القنوات الحكومية المملة، ولا حتى القنوات التجارية المكررة بل هناك عشرات ومئات القنوات التي تصنع نجوما، وتصب إنتاجا يوميا هائلا، فهل هذا هو ما كنا نفتقده؟! وهل هذا هو حقا ما نحتاجه؟!
لا يكاد يمر يوم إلا وتولد قناة فضائية عربية، أو صحف جديدة تحصل علي تراخيص، ومجلات تقذفها المطابع يوميا ملونه لامعة، وجعجعة متزايدة، فماذا عن الطحين؟! الكثير من مسابقات وبرامج الترفية، فضائح بالجملة، عناوين عن الجريمة، واصطياد كل ما يثير الزوابع، أو يوحي بأن هناك إعلاما يطرح قضايا ذات بال!! في دراسة أخيرة عن البرامج الحوارية اليومية على القنوات الحكومية والمستقلة المصرية ظهر أن نسبة تناول أوضاع الفقراء وقضاياهم كانت في أحسن هذه البرامج لا تتعدى 12%، رغم أن الدراسات والأرقام الأخيرة تقول بأن ما لا يقل عن 55% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر!!
برامج قراءة الطالع، وتفسير الأحلام، واتصل واربح، إضافة إلي برامج الشجب والتنديد والصراخ والنواح علي أحوالنا المتردية هي البرامج الأكثر رواجا ومشاهدة، هذا وبالطبع فإن الأغنيات المصورة والمسلسلات والأفلام متاحة ومستمرة طوال أربع وعشرين ساعة بالعربية ومترجمة ومدبلجة!!
هذه هي تفاصيل المشهد الحالي، بينما نحن في أمس الحاجة إلي إعلام يعرض لنا قضايا حياتنا من زاوية تدلنا على أصول الخلل وأبعاده، ومفاتيح ومقدمات وإمكانيات التدخل أو العلاج بمستوياته المختلفة شعبيا قبل رسميا!! نحتاج إلى معرفة تضاريس الخريطة التي نتحرك فيها دون الانتظار حتى تتغير الأنظمة، أو تتوب لأنها لن تتوب غالبا!! فنحن قادرون على إصلاح الكثير بأنفسنا.. الاكتفاء بالإدانة، ومجر سرد تفاصيل الفساد لم يعد يكفي، بل أصبح يصيب الناس بالإحباط أكثر، ويشيع الفاحشة واعتيادها أكثر، ويوهن الرغبة في عمل الخير، أو تحري الصواب، أو البحث عن الحقيقة!!
أصبحت الناس غالبا مستعدة لتصديق كل شيء مهما كان، وقابلة لتتداول الشك والتشكيك في كل أحد، وفي كل شيء، وإشاعة مناخ عدم الثقة، ومجتمع الشائعات هو مجتمع لا يجيد إلا الاستهلاك، ويأكل بعضه، ويدمر نفسه بنفسه!! بينما نحتاج إلى إعلام يوقظ العقل لأنه نائم، وينير الطريق أمام الأفكار الجديدة لأن طريقها شائك وغائم، ويفتح الطريق أمام الحوار الجاد والدائم بأصوله، ويصحح أوضاع المعرفة، ومواقفنا من الحرية والحب، واحترام المخالفين، وتوسيع المدارك والآفاق.
نحتاج إلى إعلام يبحث مع الناس عن سبل عيش كريمة أكثر إسعادا وتوازنا، ولو كانت أقل بهرجة أو إبهارا، ويدل المشاهد إلى برامج وخطط وطرق لاستثمار وقته بشكل أنفع وأمتع. نحتاج إلى إعلام يساعد كلا منا على فهم ذاته أكثر، والتواصل مع من حوله أفضل وأنفع، ويستوعب العالم، ويتفاعل مع محيطة في سبيل الخير والعمران بالمعنى الواسع. نحتاج إلى إعلام يتمكن من ناحية التقنيات الجديدة فيسلط أضواء مبتكرة على أصولنا القديمة التي يبدو تواصلنا نعها قاصرا عن تفعيل حركتنا في الحاضر والمستقبل.
نحتاج إلى ثورة في قراءتنا للقرآن الكريم، وفي استيعاب دروس تاريخنا، وفي تحليل أسباب هزائمنا، وفي معرفة جوانب تكويننا الحضاري والثقافي. نحتاج إلى اقتراب إنساني ومعرفي أعمق وأشمل من شخصية وسيره وسنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم، بحيث نفهم ونستوعب، ونتمثل ونتفاعل، وبالتالي نقتدي حقا به!! وبدون هذا وذاك وذلك لن يكون لنا أمل في تجديد أو تجاوز أو نهضة، وأرى أن الإعلام الرأسمالي الهادف للربح ربما يتثاقل أو يتقاعس عن القيام ببعض هذه المهام بمعايير المكسب المادي، ولكن لنا في الإعلام الشعبي بدائل وطرق وتقنيات تحتاج هي ذاتها إلى أن نفهمها، ونبدع في استثمارها!!
إن لدينا الآن ملايين الكاميرات وأجهزة البث المباشر عبر أجهزة الهواتف النقالة, وعبر شبكة الانترنت، وعقب ملايين شاشات الحاسوب الشخصي والمحمولة التي تملأ ربوع العالم العربي والإسلامي. نحن في منعطف: نكون أولا نكون، والإعلام هو قاطرة تقودنا إلى مسارات نحتاجها، أو يهوي بنا إلى قيعان سحيقة أرى أننا نحث إليها الخطى، فهل من منتبه؟!!
5/6/2007
واقرأ أيضًا:
على باب الله: حياتنا / على باب الله: ملكة جمال مصر أغلبنا يشارك