-1-
قالت البنت لأمها: لماذا كل هذا الجزع، أنت مؤمنة يا أمي، وقد استرد الله وديعته. قالت الأم: دعيني الآن يا حبيبتي، أنت لا تعرفين معنى الثكل، قالت البنت: بل أعرفه، هو أخي وأبي وحبيبي أيضا، أنا أخاف عليك، ربما كانت المسألة ليست كما تتصورين، ربما لها وجه آخر، قالت الأم: أي وجه وأي آخر وأي تصور؟ إيش عرفك أنت بما أنا فيه! وهل هناك تصور بعد الذي جرى؟؟ لقد صرت أكره اللون الأبيض ورائحة الخشب وشكل التراب!! أنت لا تعرفين ما بي. حين تتزوجين، لا...، حين تحملين،..لا.، .حين يتحرك في وجدانك شوق غامض أن تجددي الحياة عبر خلاياك، ثم تحتوينه تسعة أشهر، ثم تطلقين سراحه وأنت مترددة لا تصدقين، ثم ترضعينه أو لا ترضعينه، ثم ترينه أمامك رائحا غاديا ليس هو، لكنه هو هو. حين يقتحم عليك حجرتك دون استئذان فتطردينه ليقفز قلبك وراءه يحتضنه حتى بعد أن يغلق الباب معتذرا، حين يتكلم فلا تفهمين ما يقوله لكنك تفهمينه، حين تدعين عليه وقلبك يقول "بعيد الشر"، حين تعيشين كل ذلك، سوف تعرفين ما أنا فيه. قالت البنت: يا خبر!! أنا أحبك يا أمي،.. أنا أريد أن أقول لك...، يعني...، أصل..، أقصد أننا صحيح فقدناه، لم يعد قائما بيننا، لكن المسألة ليست كذلك بالضبط.... لكن، آسفة، قالت الأم: ماذا بك يا ابنتي، أية مسألة، وأي ضبط، ماذا بك؟!! قالت البنت: الفقد غير الموت يا أمي، الفقد غياب، لكن، الموت شيء آخر، قالت الأم: ماذا تقولين؟ قالت البنت: آسفة، اعذريني يا أمي، لم أقصد، آسفة، لاشيء.
- 2 -
قالت البنت لأخيها: لماذا لم تقل لأمنّا أنك لم تمت، وأن كل الحكاية أنك هناك، ونحن هنا؟ قال أخوها: هي لن تصدق، ولا حتى أنت، قالت: كيف وأنت تكلمني الآن كما كنت دائما، قال: ليس كما كنت بالضبط، أنا أخشى أن أحكي -حتى لك- فلا تصدقيني، قالت: إحكِ ولا يهمك، إحك وان شاء الله ما صدقت: قال: لم أتبين في أول الأمر إن كان سحابا أم ضبابا أم سرابا، كما لم أستطع أن أعرف ماذا ولا كيف صرت: لونا أو هواءً أو حضورا نورانيا محدد المعالم بقدر ما هو غامض، المهم أنني صرت أحتمل تلك الخفة الرائعة بعد أن فقدت الأرض جاذبيتها تسحبني إليها، اكتشفت بيقين أنه لا يوجد شيء اسمه الموت، رأيت أمي وهي تتألم مفجوعة لفقدي، حاولت أن أناديها لأطمئنها أنني لم أمت، لم تسمع. لمحت بجواري قطة سوداء، ومر أمامي ثعبان عملاق طيب، نظر إلي بحنان مزعج، وطارت حولي أوراق جافة انخلعت من شجرة عجوز، وقبل أن تختفي استطعت أن أقرأ ما سطر عليها، وتبينت أنها عناصر رواية تستغرق ألف ألف عام، وحلق فوقي طائر جميل لم أتبين أنه نورس إلا وأنا أحد جناحيه، وقفز نمر من فوق سور حديقة الحيوان بالجيزة يهتف للحرية، ولم يقبل أي من هؤلاء أن يبلغ أمي أن الفقد غير الموت، وأن الحياة لا تنتهي بالاختفاء.
قالت البنت لأخيها مقاطعة: كم الساعة الآن؟ قال: لم تعد عندنا حاجة إلى ساعة، قالت: كأني أسمع أذان الفجر، الغطاء يتسحّب من علي، لابد أن أنهض، المعهد!!
عن إذنك.
-3-
قالت الأم للبنت: اذهبي وأيقظي أخاك، اليوم الثلاثاء، ومحاضراته تبدأ في الثامنة، قالت البنت: حاضر، لكن هل أنت متأكدة أنه نائم في حجرته؟ قالت الأم: طبعا، أين ينام إن لم يكن في حجرته؟ في الشارع؟ قالت البنت: فما حكاية الموت هذه؟ قالت الأم: أي موت؟ قالت الفتاة بسرعة: موت الناس في العراق وفي فلسطين وفي العبارة، وفي أقسام البوليس. قالت الأم: ماذا جرى لك، نحن في ماذا أم ماذا!! أيقظي أخاك بسرعة، ستفـوته أول محاضرة، قالت البنت: طيب والقتلة؟ قالت الأم: قتلة من؟ قالت البنت: قتلة الحياة. قالت الأم: وهل يستطيع أحد أن يقتل الحياة إلا أن يبدأ بنفسه، وسوف يجد أنه عاجز عن فعل أي شيء، وتستمر الحياة بالرغم من ميتته الغبية، ومحاولاته المجهضة؟، قالت البنت: يا خبر، ماذا تقولين يا أمي؟ هل أنتِ أنت؟ كيف قلت كل ذلك؟ قالت: إيش عرفني!! هي جاءت هكذا وخلاص.
-4-
قال الشاب لأمه: لماذا لم توقظيني يا أمي كما طلبت منك أمس؟
قالت أمه: أختك يا سيدي أدخلتني في متاهات وهي تحكي لي أضغاث تخاريفها، بصراحة: أنا خائفة على عقلها.
نشرت في الدستور
30-5-2007
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: أنت معنا أم مع الحكومة؟!!! / تعتعة سياسية.. الحياء العام والحياء الخاص!!! / تعتعة سياسية: هذا الكسل العقلي، وما حدث للمصريين!!